الحكم بالسجن المؤبّد على حسنى مبارك، ووزير داخليته، حيث توقّع الناس الإعدام فى ميدان التحرير، كان صدمة مروّعة للشعب المصرى، تفاقمت بتبرئة بقية العصابة الأمنية، وتبرئة مبارك نفسه ونجليه وحسين سالم من تهمة الفساد المالى. كل ذلك كان استفزازا مخططا لإثارة الجماهيروتصريف غضبها بعيدا عن فضيحة وصول شفيق إلى مرحلة الإعادة فى انتخابات الرئاسة.. وكانت النتيجة المتوقعة انتفاضات شعبية واسعة بالميادين، حيث خرج الناس يهتفون ضد القاضى أحمد رفعت، بدلا من الهتاف ضد عملية السطو السياسى الذى تحيكه السلطة لصالح أحمد شفيق. والآن دعنا ننظر فى النتائج والتداعيات التى ستترتب على هذه المأساة: أولا- لم تجد المحكمة أدلّةً تحاكم بها النظام القديم على الأسباب التى أدت إلى ثورة الشعب، ولا على الجرائم التى ارتُكبت أثناء قمع الثورة، ومن ثم سُجّلت جرائم قتل الشهداء ضد مجهول.. والحكم بمنطوقه المتهاوى يفتح الباب واسعا أمام عمليات نقض واستئناف سوف تنتهى إلى براءة مبارك والعادلى، خصوصا مع استمرار سيطرة المجلس العسكرى على الحكم .. واستمرار وجود عصابة من جنرلات الفساد لا يزالون يمارسون القمع والتزوير والبلطجة، بأموال الحزب الوطني، ورجال الأعمال الذين نهبوا المال العام وجرّفوا الثروة المصرية لحسابهم وحساب أُسَرهم. ثانيا- الآن وقد تم تبرئة مبارك وأسرته وعصابته من الفساد المالي، فلم يعد هناك أمل فى استرداد الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج.. سواء فى ذلك، تلك الأموال التى اعترفت بها دولٌ أجنبية، وهى تُقدّر حتى الآن بمئات الملايين من الدولارات، أو الأموال التى تحتاج إلى مزيد من البحث والتقصّى للكشف عن مكامنها الخفية، وهى تقدر بمليارات الدولارات.. ولينسى الجميع قصة القبض على حسين سالم وتسليمه إلى مصر، فلم يعد لذلك قيمة على الإطلاق.. لقد أوضحت هذه الدول أنها لن تنظر فى موضوع الأموال المنهوبة المودعة فى بنوكها حتى تقدّم إليها مصر أحكاما قضائية قاطعةً مدعّمة بالأدلّة، وهذا مافشلنا فى الوصول إليه، بسبب تدمير وحرق أدلّة الإدانة فى مقرات مباحث أمن الدولة، بتواطؤ من السلطات العليا و الحكومات الانتقالية وعلى رأسها حكومة أحمد شفيق. ثالثا- خطورة هذا الحكم القضائى تضيف إلى ما سبق ذكره أنها رسالة بليغة واضحة إلى جميع الضباط والمجندين فى الشرطة وفى الجيش أيضا.. مفادها: لا تخشوا من أى عقوبة تترتب على جرائمكم فى معاملة المتظاهرين بأقسى عنف فلن تصل إليكم يد العدالة أبدا.. إنها رسالة للمستقبل القريب.. بشّر بها أحمد شفيق عندما توعّد المتظاهرين قائلا: "إن ما حدث أمام وزارة الدفاع ليس إلا عيّنة مصغّرة لما يمكن أن تواجه به سلطته العسكرية مظاهرات الاحتجاج.." وكأنه واثق من التزوير لصالحه، وواثق من سحق معارضيه إذا تظاهروا.. فمن أين جاء هذا الرجل بكل هذا اليقين..؟! إلا أن يكون مطّلعا على خفايا السناريوهات القادمة التى يتم طبخها فى الغرف المغلقة للسلطة بعيدا عن أعين الشعب ووعيه...! فى هذا اليوم التعيس من تاريخ مصر تتباكى إسرائيل على حليفها الذى كانت تتوقّع له البراءة، ويعبّر النّذْل عن سعادته بالحكم لأنه يمنحه أملا فى الإفلات من العقاب، بينما تصرخ الجماهير المكلومة متوجّعة ساخطة على هذا الحكم الهزيل، الذى لا يتناسب مع الجرائم المروّعة التى ارتُكبت فى حقه على مدى ثلاثين عاما، من القهر والذل والاستنزاف.. ومن الصعب فى هذه اللحظة التى تفجرت فيها المشاعر المكبوتة إقناع الناس بأن إعادة محاكمة المجرمين والقتلة والاقتصاص منهم، لا تزال إمكانية واردة، فى ظل حكومة وطنية منتخبة ورئيس منتخب.. وأن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق أهداف الثورة وإقرار العدالة... هذا هو التحدى الحقيقى الذى يواجهنا فى هذه المرحلة، فأمامنا الآن مهمة عاجلة ينبغى أن نركّز عليها الجهد، ونتهيأ لها بالحشد والاصطفاف، ضد المؤامرة التى يقودها أحمد شفيق.. إن إنشغال الجماهير فى اللحظة الراهنة، بقضية ثانوية مقصود بها تحويل الغضب الشعبى، وامتصاص طاقة الجماهير بعيدا عن الهدف الآنى العاجل، وهو منع هذا الرجل من إعادة استنساخ نظام مبارك.. لا بد أن تحُولَ جماهير الشعب دون وصوله إلى السلطة، فنجاحه كارثة على الثورة وعلى مصر وعلى شعوب العالم العربى الذين ينظرون بعين القلق والإشفاق على مصير الثورة المصرية... وهنا لا بد أن أُؤكد أن ما يجرى الآن على الساحة الإعلامية بصفة خاصة لا يبشر بخير، فما تزال هذه الآلة الخطيرة تضخّ فى أسماع الجماهير وعقولهم دعايات كاذبة تسمّم الأجواء السياسية، وتخيف الناس من حزب الحرية والعدالة والجماعة التى انبثق منها، فى حين أنه يمثل قوة الدّفع الوحيدة الصّلبة التى لا تزال متماسكةً، قادرةً على العمل الإيجابى لمصلحة هذا الوطن وإنقاذ الثورة .. إن هذا التخويف من شأنه أن يؤدى إلى الإحباط، حيث يشعر الناس بعدم جدوى التصويت فى انتخابات الرئاسية فيلجأون إلى السلبية والمقاطعة، لأن الإعلام يلحّ على أسماعهم أنه لا خيار أمامهم إلا أحد مرضين: الكوليرا أو الطاعون.. هذه الدعاية المسمومة تصب تلقائيا فى مصلحة أحمد شفيق، فبالمقاطعة سيجد الشعب -فى غفلة منه- أنه قد سقط فى قبضة الطاعون الذى لا علاج له منه.. ولو ركّز الإعلام بإخلاص و تجرّد على القضية الحقيقية، لبيّنوا للناس أن التحدى المطروح على الجميع هو الاختيار بين الانحياز إلى ثورة الشعب أو إلى الثورة المضادة.. إلى دماء الشهداء والمصابين والأخذ بثأرهم، أو إلى عدوّ الثورة الذى تآمر و تواطأ على قتل الشهداء وسخر من الثورة والثُّوًّار..! ولديه ثأر دفين ضد الشعب الذى هتف ضده بالملايين فى ميدان التحرير مطالبا بإسقاطه.. كذلك أرى أن اللغط الصاخب الذى يمزّق القوى السياسية الآن لن يؤدى إلا إلى هزيمة الثورة أمام الثورة المضادة.. إنه لغط غبى وخسيس أيضا، وإلا فما معنى أن تهبّ كل هذه الكيانات التى لها وزن فى الشارع والتى لا وزن لها على الإطلاق، تساوم وتشترط على مرشح حزب الحرية والعدالة، بتقديم ضمانات و تنازلات بلغت من الابتذال والسفاهة حدّا لا يصدّقه عقل .. حتى سخر منها بعض القراء قائلين: لم يبقى إلا أن تطلبوا من محمد مرسى أن يحلق لحيته وأن ينتف الشعر الذى بين حاجبيه...! لا أجد ما يمكن أن أصف به هذه الشروط إلا أنها إبتزاز لا وطنية فيه ولا شرف، والتّمحّك باسم الثورة لا صدق فيه؛ فعلى افتراض أن محمد مرسى لم يقتنع ببعض هذه الشروط أو قبلها على مضض، فهل معنى هذا أن يذهب هؤلاء إلى الاتجاه المضاد ليصوتوا لشفيق، ويبيعوا الثورة والوطن..؟! وفوق هذا وأهم منه وأخطر أن هذه الشروط لو استجيب لها كلّها فإن ذلك لا يحدّ فقط من صلاحيات رئيس الجمهورية، ولكنه يضعفه ويسلبه القوة على الإصلاح ومواجهة فساد العهد البائد المتجذر فى البلاد.. لا أجد تفسيرا للمغالاة فى فرض الشروط والتعنت فى المواقف إلا تفسيرا واحدا، وهو أنكم قدعقدمتم العزم على الانتحار بغباء وحماقة، وذلك بالإصرار على مطامعكم الشخصية والحزبية، وليس هناك أدنى شك أنه إذا تمكن شفيق فتلك نهاية الثورة وعودة الطغيان القديم.. لقد لخّص الرجل الحكيم د. عزمى بشارة الموقف بعبارة واحدة حين قال: "لقد نطق النظام القديم عبر المحكمة، فلينطق الشعب إذن فى الانتخابات". [email protected]