في يوم واحد وفي نفس واحد ولهجة واحدة ، قال وزيرا الخارجية البريطاني والفرنسي أمس أن على المعارضة السورية أن تدرك أن مسألة رحيل بشار الأسد لم تعد أولوية ، وأن عملية الانتقال السلمي المفترضة في سوريا قد تكون بوجود بشار على رأس الدولة ، وأن التحدي الأهم الآن هو محاربة داعش والإرهاب ، هذه الرسالة السياسية التي وصفت بأنها "أحقر" رسالة يمكن أن يقدمها مسئول غربي لشعب تعرض لما تعرض له الشعب السوري من مجازر على يد الطاغية وطيرانه والميليشيات التي استعان بها من كل جهة ، والمجموعات الإرهابية التي أطلقها من سجونه لتكون "فزاعة" للغرب ، مثل داعش ، مثلت تحولا انتهازيا في موقف البلدين بعد أن ظلا لسنوات يتحدثان عن أن بشار انتهى ، ولا دور له في مستقبل سوريا . التصريحات البريطانية والفرنسية تعبر عن مزاج صناع القرار في لندن وباريس ، ولكنها ليست بالضرورة قابلة للتحقق على الأرض في سوريا ، لأكثر من اعتبار ، منها اعتبار أن الثورة السورية انتقلت منذ سنوات من المعارضة السياسية إلى العمل المسلح وأصبح لها جيش حر تتعامل معه دول كثيرة كبديل وصاحب شرعية وطنية ، وأن التضحيات التي قدمها الشعب السوري بقرابة نصف مليون قتيل وثمانية ملايين مشرد ومهاجر في أقطار الأرض ، فضلا عن المصابين وعن المعتقلين بالآلاف في سجون بشار ، فضلا عن الدمار الهائل الذي ألحقه بالمدن والقرى والممتلكات ، كل ذلك ليس من السهل أن يمر بمزاج انجليزي أو فرنسي ، وواهم من يتصور ذلك ، كما أن الجيش الحر وفصائله المتعددة تسيطر حتى الآن على مناطق حيوية ومساحات كبيرة من التراب السوري ، وتزاحم جيش بشار والميليشيات المتحالفة معه على أغلب المدن الأخرى وريفها ، وباختصار ، وجود بشار على رأس السلطة في دمشق يعني أن المعركة مستمرة ، وشلال الدم مستمر ، وأن سوريا مفتوحة على المجهول ، لها ولمحيطها الإقليمي . أيضا ، حقائق الواقع تقول بأن بشار الأسد لم يعد رئيسا بالمعنى الشرعي والسيادي في سوريا ، بقدر ما هو ستار تعمل خلفه القوى الحقيقية غير السورية التي تسيطر على القرار الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي في البلاد ، فسوريا الآن شبه محتلة من القوات الروسية ، وبشار الأسد نفسه لا يستطيع السفر أو التنقل إلا بإذن وتصريح وضمان من القائد العسكري الروسي في سوريا ، كما أن العالم كله مجمع على أن القوات الروسية هي التي أنقذت نظام بشار من الانهيار ، بعد أن فشلت القوات الإيرانية وقوات حزب الله والميليشيات الشيعية في إنقاذه وسقطت مواقعه في الشمال بسهولة وسرعة أمام تقدم الجيش الحر وأصبحت حلب شبه ساقطة عسكريا ، فتدخل الروس بكثافة طيران لتعويم نظامه ، وما زالوا حتى الآن يتوسعون في قواعدهم من الساحل السوري إلى كافة المطارات إلى تأسيس قواعد عسكرية في أنحاء متفرقة من البلاد ، لتصبح سوريا عمليا تحت الاحتلال الروسي . أيضا هناك الجيش الأمريكي الذي يتواجد بقواته في الشرق السوري وله قواعده العسكرية في الجنوب أيضا ، وهناك الجيش التركي وله قواته وقواعده العسكرية في الشمال السوري ، وهناك الجيش الإيراني الحرس الثوري الذي يهمين على العاصمة دمشق ومحيطها ويمتلك القرار العسكري في أكثر من مدينة سورية وعلى الحدود الغربية أيضا من خلال تنظيم حزب الله التابع له ، ناهيك عن السيطرة الجوية التي تفرضها "إسرائيل" على سوريا ، وخاصة الجنوب ، حيث تقرر ما يمكن تنقله من السلاح والعتاد والقوات وما لا تسمح به ، وتقوم بقصف ما يخرج عن الالتزام المقرر ، وقد ضربت بطائراتها دمشق العاصمة عدة مرات ومطارها ومحيطها ومناطق أخرى دون أن يقدر بشار على إطلاق رصاصة واحدة باتجاه الأراضي المحتلة . أخطر مما سبق ، أن الانتهازية الغربية في التعامل مع ملف الإرهاب ، تعطي نتائج سيئة للغاية ومضرة بالسلام العالمي نفسه ، فالإرهاب هو صناعة نظم قمعية واستبداد وغياب للعدالة وتكميم الأفواه وسيطرة الأجهزة الأمنية على البلاد والعباد في مناطق كثيرة من العالم العربي والإسلامي ، ونظام بشار على سبيل المثال قتل وذبح من السوريين أكثر بمائة ضعف ما فعله تنظيم داعش أو غيره ، كما ان داعش ظلت تعيث فسادا في العراقوسوريا سنوات ، قتلا وتدميرا وذبحا ، دون أن يحرك الغرب ساكنا تجاهها ، فلما وصلت بضرباتها الإرهابية إلى عواصم غربية ، تحول المسار السياسي ، وقالوا أن معركتنا مع داعش والإرهاب وليست مع نظم القمع والاستبداد الدموية ، هذا يعني أن الإرهاب مسموح له أن يقتل ويدمر في بلاد العرب والمسلمين ، ويمكن غض الطرف عنه والتعايش مع وجوده ، أما أن يمتد القتل والتدمير إلى العالم الغربي فهو ما يستدعي التحرك فضلا عن دعم النظم المستبدة أيضا لممارسة المزيد من القمع للشعوب ، تحت دعوى أنها ستتحالف مع الغرب في مواجهة داعش ، هذه رسالة خطيرة للغاية ، لأنها باختصار تقول أن الموت والسحق حصري للعرب وهي مسألة شديدة الانحطاط أخلاقيا ، فضلا عن أنها ستمثل دعما فعليا للإرهاب فكريا ومعنويا حيث يتغذى على تلك التناقضات ويجند المزيد من الأتباع على أرضية اتهام الغرب بأنه متآمر ضد الشعوب العربية والمسلمة وأنه يتحالف مع الطغاة والمستبدين طالما يحققون له مصالحه حتى لو كانت على شلالات الدم العرب وتدمير بلدان العرب والمسلمين . كنت أتصور أن القيادات السياسية الغربية تدرك أنه في العالم الذي أصبح قرية كونية واحدة متداخلة ، يستحيل أن ينعم جزء منه بالسلام والأمن بينما النار تشتعل بجواره ، وينتشر الموت والقتل والدمار من حوله ، وأن السلام والأمان ، فوق أنه ضرورة إنسانية للجميع ، وعلى الجميع حمايته للجميع ، فإنه من الناحية العملية يستحيل أن يتحقق دون أن ينعم الجميع به . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1