نتيجة الانتخابات الرئاسية جاءت غريبة، وليس فى غرابتها غرابة، فلا انتخابات تخلو من المفاجآت.. فى بلدنا هذا وعهدنا هذا.. سألت كثيرين ممن أعرفهم وأحسبهم من المثقفين ذوى الرؤى عمن سينتخبونه فى الإعادة، فكان الرد على غير ما توقعت، وانحصرت الإجابة فى بضع كلمات.. كيف يستجار من الرمضاء بالنار، من يكون الرمضاء ومن يكون النار.. ساعتها أدركت على الفور أن الثورة لم تكن إلا كسحابة صيف سرعان ما انقشعت، ولكن دماء شبابنا، التى سالت على الأرض حقيقة ناصعة ومازالت الأرض تصطبغ بها، أليس لهذه الدماء مقابل! ويفزعنى وغيرى أن هناك عزوفًا عن المشاركة فى انتخابات الإعادة.. قطاع كبير من الناس سيقبعون داخل ثيابهم وينتظرون ما سيفعل بهم.. يقولون كيف نختار بين اثنين أحدهما يمثل امتدادًا للعهد البغيض، والثانى يذكرنا بما فعله المسلمون فى غزوة أحد حين تعجلوا حصد الغنائم وتركوا مواقعهم فلاقوا ما لاقوه من هزيمة. ثم كيف يختار بين من يخاطب الناس بتكبر واستعلاء واستقواء وكأنه يمن علينا أن رشح نفسه ليكون علينا رئيسًا، وبين من اهتزت ثقة الناس فى كلامهم ووعودهم. كيف نصدق من أجبر على تغيير خطابه للمراوغة، وبين من عشيرته مسئولة عما نحن فيه من تخبط سياسى. يبدو أننا بصدد نظام جار استنساخه من نظام الأمس الذى ظننا أنه ذهب إلى غير رجعة.. إننا بصدد تهيئة الظروف لنظام أكثر حيطة وأشد شراسة، نظام بينه وبين شباب الأمة ثأر منيم، ولن يهدأ إلا بأخذه.. سلبيتنا ستقودنا إلى التهلكة. * * * قال أحدهم إن المصريين لا يوجد الآن بينهم من يصلح للرئاسة، واستشهد بماضى الأيام حين كانوا يفضلون ترشيح أجنبى ليكون رئيسهم، ولا يختارون أحدًا من بينهم وكأنهم يستكثرون الرئاسة على أى منهم... فنحن لا نصلح لحكم أنفسنا، ألم تثبت التجربة ذلك على مدى ستين عامًا حكم فيها أبناء الوطن ابتداء من جمال عبد الناصر، مرورا بالسادات ووصولا إلى حسنى مبارك، وقادوا البلد من سيئ إلى أسوأ، ومن هزيمة إلى هزيمة، وكل هزيمة تستنفد عزائمنا وطاقاتنا المادية والمعنوية حتى وصلت بنا الحال إلى ما نحن فيه من بؤس وشقاء. ويفزعنى وغيرى أن هناك قطاعا من الناس لا يستهان به قد عقدوا النية على انتخاب من توعد الجميع بالويل والثبور! وهذا موقف لا يمكن تفسيره إلا فى ضوء مصطلحين فى علم النفس لم يكن من السهل تقبلها والاقتناع بهما من قبل، الأول مصطلح "السادية"، الذى يعنى هواية إيقاع الألم بالآخرين، والثانى هو مصطلح المازوخية ويعنى استعذاب هؤلاء الآخرين للألم الذى يقع عليهم. يا ألطاف الله.. هل شعب مصر ما زوخى يستعذب الألم ويبحث عن سادى يوقعه عليه وقد وجد ضالته فى مرشح من المرشحين.. أم تصدق عليه مقولة الديكتاتور الألمانى هتلر "الجماهير تريد أن تخضع لمن يسيطر عليها ويسومها العذاب". أم أن الشعوب المتخلفة تميل إلى الحكم الاستبدادى، الذى يوفر لهم الهدوء والسكينة الزائفين.. هل فقد الشعب القدرة على التمييز بين ما ينفعه وما يضره.. إن المرء ليحار فى تفسير ما نحن فيه. ثم يقولون إن تزويرا قد حدث لصالح أحدهم، وهذا صحيح، ولكن أيا كان حجم هذا التزوير من الكبر أو الصغر فهو لم يتم بأيد أجنبية، وإنما بأيادى البعض منا، هؤلاء البعض خانوا أنفسهم، وخانوا الشعب كله، وأضاعوا بخيانتهم كفاح خيرة شبابنا.. الشهداء منهم والمرضى والماضين على نهجهم.. لقد خانوا الحاضر والمستقبل. الثورة الآن فى النزع الأخير، ولكنها مازالت تنبض، فأغيثوها، ففى إغاثتها حياة للناس أجمعين. أيها الناس.. دعوا السلبية، فمقاطعة الانتخابات ليست فى الصالح، ستأتى بما لا تهوى أنفسنا.. انزلوا من بيوتكم وحكموا ضمائركم... ولننح مصالحنا الشخصية، ولنقدم مصلحة الوطن.. فشبابنا ساهم بالروح والدم، فهل نضن عليه بكلمة حق.. فى الخفاء، لا يطلع عليها إلا الله.