الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ... أما بعد ،،، فقد خلق الله سبحانه عباده ليوحدوه ، وبالألوهية يفردوه ، وأمرهم بطاعته ، ووعدهم بجنته ، ونهاهم عن معصيته ، وخوفهم بناره ، وبين نبيه أن كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ( رواه إبن ماجة وحسنه الألبانى ) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ } ( رواه مسلم ) والوقوع فى الخطأ ليس عيبا ، إنما العيب في الإصرار على الخطأ والتمادي في الباطل والجدال فيه ، والخطأ الأكبر حين يحاول المخطىء إيجاد المبررات ليوهم نفسه ومن حوله بأنه لم يخطىء أصلا ، وقد فضح الله هذا الصنف من الناس فقال تعالى : { بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ( القيامة 14 – 15 ) ، وقد يبدو الفعل من وجهة نظر الآخرين خطأ فيضطر المسلم أن يبرر فعله للناس ، وسوف نلقى الضوء من خلال تلك المقالة على هذا الداء القاتل ليتجنبه المسلم فيظفر بالسلامة فى دينه ودنياه . الوقفة الأولى : تعريف التبرير والمعاذير :- أولا : تعريف التبرير :- جاء فى معجم المعانى الجامع : { بَرَّرَ عملَه : زكّاه ، وذكر من الأسباب ما يبيحه } أه . وجاء فى قاموس المعانى : { برّر العمل ونحوه : سوَّغه ؛ زكّاه وذكَر مايبيحه من الأسباب والمعاذير } أه . وجاء فى المعجم الغنى : { برر العمل أو غيره : ذكر الأسباب والحجج التي تبيح القيام به .} أه ثانيا : تعريف المعاذير:- جاء فى معجم المعانى الجامع : { مَعَاذِيْرُ: ( اسم ) مَعَاذِيْرُ : جمع مِعْذَارُ ، معاذيرُ ، المَعْذِرَةُ : عُذْر ، حُجَّةٌ يُتأسَّف بها لرفع اللَّوم والحرج والمؤاخذة لم يلتمسْ أيَّة مَعْذِرة ، طَلَبَ مِنْهُ الْمَعْذِرَةَ : الصَّفْحَ ، الْمُسَامَحَةَ } أه . الوقفة الثانية : التبرير والمعاذير المقبولة :- فالمسلم قد يقع فى الخطأ ، أو ما يظن الآخرون أنه خطأ ، فينكرون عليه فيبرر فعله بتبريرات مقبولة ، ومن هذه التبريرات الآتى : أولا : الإعتراف بالخطأ فضيلة :- وأصل هذا يعود إلى أول معصية وقعت من البشر ، فقد عصى أبونا آدم وأمنا حواء ربهما ، فأكلا من الشجرة التى نهاههما عن الإقتراب منها ، وحينما أنكر عليهما فعلهما كان الإقرار بالذنب والإعتراف بالخطأ ، قال تعالى : { وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .} ( الأعراف 19 – 23 ) فآدم لم يستخدم أي مبررات نفسية شيطانية رغم وجود مبررات نفسية شيطانية مقنعة مثل : 1- وسوسة الشيطان . 2- النسيان . 3- الضعف البشرى . 4- الاحتجاج بالقدر . كلها فعلا مبررات مقنعة لكن آدم عليه السلام صادق مع نفسه ومع ربه ، كذلك تأمل آدم لم يلم حواء وحواء لم تلم آدم وكلاهما اعترف أنه أخطأ وظلم نفسه واستغفر ربه وهذا هو الذي يجب على المخطىء دوما أن يقوم بفعله . ثانيا : السكوت وعدم الجدال :- وقد لا يستطيع الإنسان أن يعترف بخطئه ، فيسكت عند الإنكار عليه ، ليتعلم من خطئه ، فعن أبى واقد الليثى رضى الله عنه قال : { خرجنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى حُنينٍ ونحن حُدثاءُ عهدٍ بكفرٍ وللمشركين سدرةٌ يعكفون عندَها وينُوطون بها أسلحتَهم يُقالُ لها ذاتُ أنواطٍ فمررنا بسدرةٍ فقلنا : يا رسولَ اللهِ اجعلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ فقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : اللهُ أكبرُ إنها السننُ قلتم والذي نفسِي بيدِه كما قالت بنو إسرائيلَ لموسَى : اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ ، لتركَبُنَّ سنَنَ مَن كان قبلَكم } ( رواه أحمد وصححة الألبانى ) سدرة أي : شجرة ، وقَولُهُ : يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنوَاطٍ ، الأنواط : جمع نوط ، وهو كل شيء يعلق ، وذات الأنواط هي الشجرة التي يعلق عليها هذه المعاليق . قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ : هِيَ اِسمُ شَجَرَةٍ ، بِعَينِهَا كَانَت لِلمُشرِكِين ، يَنُوطُونَ بِهَا سِلَاحَهُم ، أَي يُعَلِّقُونَهُ بِهَا ، وَيَعكُفُونَ حَولَهَا ، فَسَأَلُوهُ أَن يَجعَلَ لَهُم مِثلَهَا ، فَنَهَاهُم عَن ذَلِكَ . فالصحابة رضوان الله عليهم سكتوا حينما أنكر عليهم النبى صلى الله عليه وسلم قولهم { إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط } ولم يجادلوا ، فلم يقولوا مثلا هل تكفرنا يارسول الله ؟ نحن لم نطلب إله ، وإنما طلبنا سدرة نعلق بها أسلحتنا طلبا للبركة ، مما يدل على أن العبرة بالمعاني ، وليس بالألفاظ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - شبه قولهم بقول بني إسرائيل ، مع أنهم لم يطلبوا إلها من دون الله صراحة . وقارن بين ما فعله الصحابة وبين ما يفعله كثير منا الآن ، فقد أنكر أحد طلبة العلم على بعض الناس إفتراقهم في كل شيء وعدم قبول رأى المخالف ، وأنهم تشبهوا باليهود والنصارى الذين قال الله عنهم : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } ( البقرة 145 ) وقال : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ? وَأُولَ?ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ( آل عمران 105) فما كان قولهم إلا أنت تكفرنا وتجعلنا كاليهود والنصارى !!! ثالثا : التبرير بالنسيان :- قد يقع المسلم في الخطأ نسيانا ، فينكر عليه ، فيبرر وقوعه في الخطأ بالنسيان وأنه لم يقصده ، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما جاء بقصة موسى والخضر عليهما السلام ، حيث إشترط الخضر على موسى حال مصاحبته لتلقى العلم ألا يسأله عن شيء مما سيراه حتى يفسره له ، فلما خرق الخضر السفينة ، خالف موسى الشرط و أنكر عليه ، فلما أنكر عليه الخضر عدم الإلتزام بالعهد ، برر فعله بالنسيان : قال تعالى : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } ( الكهف 66 - 73 ) رابعا : التبرير بالمصلحة الراجحة :- وقد يقع المسلم فيما يراه الآخرون خطأ فيبرره بجلب المصلحة ، ودفع المفسدة ، فعن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال : { احتَلمتُ في ليلةٍ باردةٍ في غزوةِ ذاتِ السُّلاسلِ فأشفَقتُ إنِ اغتَسَلتُ أن أَهْلِكَ فتيمَّمتُ ، ثمَّ صلَّيتُ بأصحابي الصُّبحَ فذَكَروا ذلِكَ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ : يا عَمرو صلَّيتَ بأصحابِكَ وأنتَ جنُبٌ ؟ فأخبرتُهُ بالَّذي مَنعَني منَ الاغتِسالِ وقُلتُ إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يقولُ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ، فضحِكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ولم يَقُلْ شيئًا } ( رواه أبو داود وصححه الألبانى ) فالقاعدة أنه إذا وجد الماء بطل التيمم ، وعمرو بن العاص كان واجدا للماء ، وتيمم وصلى بأصحابه ، ومن ثم فقد أنكروا عليه فعله وعدوه خطأ وشكوه للنبى صلى الله عليه وسلم ، فبرر فعله بدفع المفسدة المترتبة على الإغتسال ، فأقره النبى صلى الله عليه وسلم على فعله فصار التيمم مع وجود الماء لغير القادر على إستعماله ، سنة تقريرية عن النبى صلى الله عليه وسلم . خامسا : تبرير الوقوع فى الشبهة :- وقد يقع المسلم في شبهة ، فيبرر للناس ما وقع فيه حتى لا يتهم في دينه ، فعن صفية رضى الله عنها قالت : { كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ معتكفًا . فأتيتُه أزورُه ليلًا . فحدثتُه . ثم قمتُ لأنقلبَ . فقام معي ليَقْلِبني . وكان مسكنُها في دارِ أسامةَ بنِ زيدٍ . فمرَّ رجلانِ من الأنصارِ . فلما رأيا النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أسرعا . فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ " على رِسْلِكما . إنها صفيةُ بنتُ حُيَيٍّ " فقالا : سبحان اللهِ ! يا رسولَ اللهِ ! قال " إنَّ الشيطانَ يجري من الإنسانِ مجرى الدمِ . وإني خشيتُ أن يقذفَ في قلوبِكُما شرًّا " أو قال " شيئًا " . } ( رواه البخارى و مسلم ) قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم في شرحه لكتاب عمدة الأحكام تعليقا على هذا الحديث : { فيه مسائل : ... مشروعية ذبّ المرء عن عِرضه ، ودفع التهمة عنه . فهذا أشرف الْخَلْق صلى الله عليه وسلم دَفَع عن نفسه ما قد يَقَع في النفس ، وأخبر عن المرأة التي معه أنها زوجته صفية رضي الله عنها . } أه . وقال عمر رضي الله عنه : مَن عَرَّض نفسه للتهمة فلا يلومن مَن أساء به الظن ، ومَرّ بِرَجُل يُكَلِّم امرأة على ظَهر الطريق ، فَعَلاه بالدِّرَّة ، فقال : يا أمير المؤمنين إنها امرأتي ! فقال : هلاّ حيث لا يراك أحدٌ مِن الناس . ذَكَره الغزالي في " إحياء علوم الدِّين " . سادسا : تبرير الوقوع فى المصيبة :- وقد يقع المسلم في المصيبة ، فيبررها بالقدر ، فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { احتجَّ آدمُ وموسى ، فقالَ موسَى : يا آدمُ أنتَ أبونا خيَّبتَنا وأخرجتَنا منَ الجنَّةِ ، فقالَ لَهُ آدمُ : أنتَ موسَى ، اصطفاكَ اللَّهُ بِكَلامِهِ ، وخطَّ لَكَ بيدِهِ ، أتلومُني على أمرٍ قدَّرَهُ اللَّهُ عليَّ قبلَ أن يخلقَني بأربعينَ سنةً ؟ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : فحجَّ آدمُ موسَى ، فحجَّ آدمُ موسى وفي حديثِ ابنِ أبي عمرَ وابنِ عبدةَ ، قالَ أحدُهُما : خطَّ ، وقالَ الآخرُ : كتبَ لَكَ التَّوراةَ بيدِهِ } ( رواه مسلم ) ولا يعتقد البعض أنه يجوز الإحتجاج بالقدر على فعل المعصية قبل وقوعها ، إستنادا إلى هذا الحديث ، إذ غاية ما فيه أنه يجوز الإحتجاج بالقدر على المعصية بعد وقوعها إذا تاب منها المسلم ، وهذا ما بينه الشيخ إبن العثيمين في شرحه للأربعين النووية حيث قال : { هذا يتمسّك به من يحتجّ بالقدر على فعل المعاصي . ولكن كيف المخرج من هذا والحديث في الصحيحين ؟ أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – بجواب ، وأجاب تلميذه ابن القيم - رحمه الله - بجواب آخر. شيخ الإسلام قال : إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب ، وصار ذنبه سبباً لخروجه من الجنة ، لكنه تاب من الذنب ، وبعد توبته اجتباه الله وتاب عليه وهداه ، والتائب من الذنب كمن لاذنب له ، ومن المحال أن موسى عليه الصلاة والسلام - وهو أحد أولي العزم من الرسل - يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه وهداه ، وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله ، وهي إخراج الناس ونفسه من الجنة ، فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم ، على أن آدم عليه الصلاة والسلام لاشك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام ، فكيف يلومه موسى ؟ وهذا وجه ظاهر في أن موسى عليه السلام لم يرد لوم آدم على فعل المعصية ، إنما على المصيبة التي هي من قدر الله وحينئذ يتبين أنه لاحجة في الحديث لمن يستدل على فعل المعاصي . إذاً احتج على المصيبة وهي الإخراج من الجنة ، ولهذا قال : أخرجتنا ونفسك من الجنة ولم يقل : عصيت ربك ، فهنا كلام موسى مع أبيه آدم على المصيبة التي حصلت ، وهي الإخراج من الجنة ، وإن كان السبب هو فعل آدم . وقال رحمه الله : اللوم على المصائب وعلى المعائب إن استمر الإنسان فيها . أما تلميذه ابن القيم - رحمه الله - فأجاب بجواب آخر قال : إن اللوم على فعل المعصية بعد التوبة منها غلط ، وإن احتجاج الإنسان بالقدر بعد التوبة من المعصية صحيح . فلو أن إنساناً شرب الخمر ، فجعلت تلومه وهو قد تاب توبة صحيحة وقال : هذا أمر مقدر عليَّ وإلا لست من أهل شرب الخمر، وتجد عنده من الحزن والندم على المعصية ، فهذا يقول ابن القيم : لابأس به . وأما الاحتجاج بالقدر الممنوع فهو : أن يحتج بالقدر ليستمر على معصيته ، كما فعل المشركون ، أما إنسان يحتج بالقدر لدفع اللوم عنه مع أن اللوم قد اندفع بتوبته فهذا لابأس به. وهذا الجواب جواب واضح يتصوره الإنسان بقرب ، وإن كان كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - أسد وأصوب ، لكن لامانع بأن يُجاب بما أجاب به العلامة ابن القيم . وقال ابن القيم : نظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين طرق ابنته فاطمة وابن عمه عليَّاً رضي الله عنهما ليلاً فوجدهما نائمين ، فقال : أَلاَ تُصَلِّيَانِ ؟ فكأنه عاب عليهما ، أي لماذا لم تقوما لصلاة التهجّد فقال علي رضي الله عنه : يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّ أَنْفُسَنَا بِيَدِ اللهِ عزّ وجل فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا ؛ بَعَثَنَا ، فَخَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْرِبُ عَلَى فَخِذِهِ وَيَقُوْلُ : " وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً " لأن عليّاً رضي الله عنه دافع عن نفسه بأمرٍ انتهى وانقضى . ولو أن إنساناً فعل معصية وأردنا أن نقيم عليه العقوبة حدّاً أو تعزيراً وقال : أنا مكتوب عليَّ هذا . ولنفرض أنه زنا وقلنا : اجلدوه مائة جلدة وغربوه عاماً عن البلد ، فقال : مهلاً ، هذا شيء مكتوب عليَّ ، أتنكرون هذا ؟ فسنقول : لاننكره ، فيقول : لالوم عليّ ، فنقول : ونحن سنجلدك ونقول هذا مكتوب علينا . وذكر أن سارقاً رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر بقطع يده ، فقال : مهلاً يا أمير المؤمنين ، والله ما سرقت إلا بقدر الله ، وهذا جواب صحيح ، فقال عمر : ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله ، فغلبه عمر رضي الله عنه ، بل نقول : إننا نقطع يده بقدر الله وشرع الله ، فالسارق سرق بقدر الله ، لكن لم يسرق بشرع الله ، ونحن نقطع يده بقدر الله وشرع الله ، ولكن عمر رضي الله عنه سكت عن مسألة الشرع من أجل أن يقابل هذا المحتج بمثل حجته . فتبين الآن أن الاحتجاج بالقدر على المعاصي باطل ، والاحتجاج بالقدر على فوات المطلوب باطل أيضاً } أه . الوقفة الثالثة : التبرير والمعاذير غير المقبولة :- سبق وأن ذكرنا أن التبرير المقبول يكون عند وقوع المسلم في الخطأ ، أو ما يظنه الناس خطأ ، فيبرره المسلم ، أما التبرير غير المقبول فهو عبارة عن أعذار وأسباب تبدو للنظرة العابرة مقنعة ومنطقية ولكنها ليست الأسباب الحقيقية والدوافع الفعلية وراء السلوك وهي عبارة عن تبرير لسلوك الفرد ومعتقداته الذي يعتقد هو في قرارة نفسه أنه خاطئ ، و من شأن هذا السلوك أن يحرم صاحبه من التبصر بأفعاله والتحكم فيها ومراجعه أخطائه ، ويختلف التبرير عن الكذب ، بأن الأول ( التبرير) يكذب فيه الإنسان على نفسه ، في حين يكون الثاني ( الكذب ) بأن يكذب الإنسان على الناس . وهذه الآلية الدفاعية تقدم أسباباً مقبولة اجتماعياً لما يصدر عن الإنسان من سلوك وهو يخفي وراءه حقيقة الذات . وهذا النوع من التبرير قد يقع فيه المسلم - كما سيأتى من قصة على بن أبى طالب رضى الله عنه - أصل تبرير الخطأ :- وقد بينا آنفا ، أن الإعتراف بالخطأ فضيلة ، وهو نوع من أنواع التبرير المقبول ، وأن أول من فعل ذلك أبونا آدم وامنا حواء عليهما السلام ، وعلى النقيض من فعلهما ، كان أول تبرير غير مقبول رفيقهما في القصة ، إبليس لعنة الله ، حيث أبى أن يسجد لآدم لما أمر بالسجود له ، ولما أنكر عليه ربه كان التبرير غير المقبول ، فاستحق الطرد من الجنة ، واللعن إلى يوم الدين ، فاجتمع في قصتهم نوعا التبرير المقبول وغير المقبول ، ليلزم المسلم الأول ، ويتأسى بأبويه ويجتنب الثانى ، ويهجر فاعله . قال تعالى : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ( الأعراف 12 ) قال إبن كثير - رحمه الله - في تفسيره : { وقول إبليس لعنه الله : ( أنا خير منه ) من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول ، يعني لعنه الله : وأنا خير منه ، فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه ، بأنه خلق من نار ، والنار أشرف مما خلقته منه ، وهو الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ، ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص قوله تعالى : ( فقعوا له ساجدين ) ( ص : 72 ) فشذ من بين الملائكة بترك السجود ، فلهذا أبلس من الرحمة ، أي : أيس من الرحمة ، فأخطأ قبحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضا ، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت ، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح . والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ، ولهذا خان إبليس عنصره ، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة . } أه . وحيث أن أفعال العباد تدور مع الأحكام الخمسة ، فقد تكون واجبة أو مستحبة أو محرمة أو مكروهه ، أو مباحة فقد يقع التبرير فيها كلها أو بعضها وذلك على النحو الآتى : أولا : تبرير ترك الواجب :- فقد أنزل الله أوامر في كتابه ، وفى سنة نبية صلى الله عليه وسلم ، وأمر عباده بإمتثالها ، فمنهم من امتثل ، ومنهم من تركها معترفا بخطئه ، ومنهم من برر تركه لها بتبريرات واهية . فعن عبدالله بن عباس رضى الله عنهما قال : { قال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلاَ تَفْتِنِّى أَلاَ فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ( التوبة: 49 ) : نَزلَت في الجَدِّ بن قَيسٍ لمَّا غزا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تبوكَ، قال لهُ : هل لك يا جَدُّ في بلادِ بني الأصفَرِ ، تتَّخِذُ منهُم السَّراريَّ والوُصفاءَ فقال جَدُّ : ائذَن لي في القُعودِ عنكَ ، فقَد عرَفَ قَومي أنِّي مُغرَمٌ بالنِّساءِ ، وإنِّي أخشى إن رأيتُ بَناتِ بني الأصفَرِ أن لا أصبِرَ عَنهنَّ ! فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ } ( رواه الطبرانى في معجمه الأوسط وصححه الألبانى ) فانظر إلى هذا الرجل الذي علم مشقة السفر إلى تبوك ، وصعوبة مواجهة الروم والقتال معهم ، أراد أن يبرر موقفه ، ويحمي ذاته ، فاصطنع سبباً وهمياً لذلك هو غرامه بالنساء ، وخشيته أن يفتن عند رؤيتهن فيترك الصف المسلم لأنه لا يستطيع أن يصبر عنهن !. قال شيخ الإسلام إبن تيمية – رحمه الله – في كتابه " الإستقامة " : { ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة ، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة . كما قال تعالى عن المنافقين ، { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ( التوبة : 49 ) . وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم .. فقال : « يا رسول الله إني رجل لا أصبر على النساء ، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر فائذن لي ولا تفتني فأنزل الله فيه { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ( التوبة : 49 ) يقول : إن نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوصه عنه الذي زيّن له ترك الجهاد فتنة عظيمة قد سقط فيها ، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه ، بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته ؟ وهذه حال كثير من المتدينين يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين لله وتكون به كلمة الله هي العليا ، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات ، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منها . } أه . ومن أمثلة تبرير ترك الواجب الآن : ما يفعله بعض المسلمين من ترك الصلاة في المسجد بتبريرات واهية ، فتراه يسير مع صديقه فيؤذن للصلاة ، فيدعوه صديقه لدخول المسجد للصلاة ، فلا يدخل معه بدعوى أنه سيصلى في بيته ، أو أنه غير متوضىء وأنه لا يستطيع دخول دورات مياة المسجد بدعوى عدم نظافتها ، أو عدم القدرة على خلع الحذاء ، أو كون رائحة شرابه كريهة ، فنقول له بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره . المستشار / أحمد السيد على إبراهيم ** نائب رئيس هيئة قضايا الدولة والكاتب بمجلة التوحيد