وفقًا للمعلَن حتى الآن قاربت المرحلة الانتقالية على النهاية بكل ما لها وما عليها، وفى أسوأ الأحوال فقد نجح المجلس العسكرى فى إدارة هذه المرحلة، وكانوا كمَن يقبضون على الجمر، أو أنهم يسيرون على سلك كهربائى عارٍ طوال 16 شهرًا منذ أول يوم تنحى فيه الرئيس السابق، بل إن البعض يذهب إلى أن بيان الجيش الأول فى 10 فبراير، الذى أيد فيه المطالب الشعبية المشروعة، وأن الجيش هو الحارس على تنفيذها، ويذهب البعض الآخر إلى أن الانحياز من الجيش وبدء إدارة الفترة الانتقالية كان من يوم 28 يناير يوم نزلوا للشوارع، وتعاملوا بود ظاهر مع المظاهرات ومع المتظاهرين؛ ولهذا كان المجلس العسكرى مستعدًا فى البيان رقم 5 عقب التنحى حينما علق العمل بأحكام الدستور وحل مجلسى الشعب والشورى وتعهده بإدارة فترة انتقالية مدتها ستة شهور، وهكذا بدا منذ أول يوم أن هناك سيناريو صناعة مصرية ليس له علاقة بصياغات الخارج، حدث هذا فى الوقت الذى لم تكن هناك أية مؤسسة أو جهة بحثية لديها رؤية لإدارة الفترة الانتقالية مع العلم أن هناك عددًا من القوى اقترحت تشكيل مجلس رئاسى وحكومة وبرلمان مؤقت، وكانت تستهدف السيطرة على الثورة وامتطاءَها بفرض نفسها كقيادة وسط زحام الميدان وبقية القوى الثورية، بينما سارعت قوى أخرى لمد الفترة الانتقالية إلى 3 سنوات، وبادر أيامها هيكل بالكتابة فى الأهرام مطالبًا المشير إعلان نفسه رئيسًا، وأن تكون الفترة الانتقالية عامين، وبادر عدد من المؤلفة قلوبهم وطنيًا بالتودد للمجلس العسكرى مطالبين إياهم بمد الفترة الانتقالية، وجاءت التحية من العسكرى بأفضل منها بتعيينهم فى مجالس الفترة المتوترة كالمجلس الاستشارى والمجلس القومى لحقوق الإنسان... إلخ، الوحيد الذى كان واضحًا هو البرادعى، الذى ظل يكرر مد الفترة الانتقالية عامين وإبعاد المجلس العسكرى وتشكيل مجلس رئاسى مدنى، يرأسه هو بالطبع وفى سبيل ذلك ظل أنصاره يملأون البلد والفضائيات ضجيجًا وصخبًا، غير أن الضمير المصرى استدعى على الفور النموذج الأمريكى فى العراق وتشكيله لمجلس رئاسى احتل العملاء فيه كل المواقع؛ ولهذا رفض المصريون اقتراح البرادعى متزامنًا مع الحقائق التى بدأت تتسرب عن التمويل الأجنبى ومنظمات المجتمع المدنى الأمريكية، غير أن الرؤية الأمريكية كانت تظن وتراهن على أن تحذو مِصر النموذج التركى، وذلك بإقامة نظام يسمح فيه الجيش بالاحتفاظ بالرقابة الأساسية على العملية السياسية فى ظل صعود حزب سياسى إسلامى، يبتعد عن العقيدة، ويصبح حزبًا سياسيًا محافظًا على الصعيد الاجتماعى وليبراليًا على الصعيد الاقتصادى، وهو ما سعت إليه جماعة الإخوان المسلمين فى بدايات الثورة، وقدمت تطمينات بتلك المعانى ليست للداخل المصرى فقط ولكن للخارج، وكان واضحًا أن الإسلاميين على أعتاب تحقيق حُلم السلطة ولكن الأحزاب والقوى الليبرالية كانت هى الأخرى تستدعى نموذجًا تركيًا آخر، وهو ما يسمى بالدولة العميقة، تتكون من الجيش والأجهزة الأمنية وأجزاء من السلطة القضائية ومؤسسات أخرى، وعندما فشل هذا الاختيار عوَّضت تلك القوى فشلها فى الشارع وفى صناديق الانتخابات باللجوء إلى القضاء، وتم وضع المحاكم فى خضم المعركة السياسية لتُخرج القضاء عن حيدته، فإذا ما أعلنت المحكمة أن قانون الانتخابات غير دستورى، وأبطلت الانتخابات ستدخل مصر فى أزمة سياسية كبيرة قد تُبقى الجيش فى السلطة لشهور مقبلة. وهناك القوى الرئيسية مثل الإخوان وكفاية و6 إبريل وائتلاف شباب الثورة التى تدعو للنزول إذا فاز مثلاً أحمد شفيق لتعود المليونيات مرة أخرى بعد ظن بأنها توقفت بعد 65 مليونية من جمعة الغضب لمليونية العباسية، بينما كان الظن أنه بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية ستختفى ظاهرة المليونيات. وهذا أيضًا ما يستدعى إعادة النظر فى الفترة الانتقالية لحفظ الأمن والاستقرار الهش، خاصة فى ظل تلكؤ البرلمان فى تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وانتظارًا من الأغلبية نتائج انتخابات الرئاسة، فإذا جاء الرئيس منهم يصبح النظام رئاسيًا، وإذا لم يكن منهم فسيكون النظام برلمانيًا؛ لكى يشكل الإخوان الحكومة وتعود إليهم الرئاسة، ويرى كثيرون من المهمومين بهذا البلد بعيدًا عن الانتماءات الحزبية والتعصب الأيديولوجى أن الفترة الانتقالية يجب أن تستمر حتى يتم وضع الدستور، ويتم الاستفتاء عليه ورعاية الرئيس المقبل حتى تستقر الأوضاع وعدم الخضوع للأقلية التى لا تجد نفسها إلا فى الفوضى، ومن الغريب أن علماء المِصريات يعرفون الفترة الانتقالية ما بين نهاية الأسرة السادسة والعشرين أو نهاية الدولة القديمة، للمملكة حلول الدولة الوسطى ويقولون إنه خلال تلك الفترة حدث الطوفان الذى غرق فيه قوم نوح، عليه السلام، وفيه انهارت السلطة المركزية الملكية وحكم مصر محتلون أجانب وبدو شاسو، ويقال إن سيدنا إبراهيم أبا الأنبياء زار مصر بعد هذه الفترة، وأهداه حاكمها يومذاك السيدة هاجر أم ولده إسماعيل؛ لتبدأ مصر عصرًا جديدًا، تنطلق فيه شرقًا وغربًا وجنوبًا بعد عصور من الانحطاط كان أخطرها الفترة الانتقالية، و"العاقل مَن اتعظ بغيره"، فما بالك بما لا يتعظ بنفسه وبتاريخه عمومًا؟!، وفى كل الأحوال ستظل تجربة الفترة الانتقالية فى مصر سابقة تستدعى الأكاديميات العسكرية والسياسية تدارسها لوضع علم جديد يسمى "إدارة الفترات الانتقالية"؛ لأننى أظن أن العالم سيحتاج إلى هذا العلم جدًا.