أولا : القرآن الكريم :- حثت بعض آيات القرآن الكريم على ضرورة العمل بالقول الراجح ومنها : 1- قال تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ . } ( الزمر } ( الزمر : 17 – 18 ) قال الشنقيطى – رحمه الله – في " أضواء البيان " : { وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيتبعون أحسنه ( 39 \ 18 ) أي : يقدمون الأحسن ، الذي هو أشد حسنا ، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن ، ويقدمون الأحسن مطلقا على الحسن . ويدل لهذا آيات من كتاب الله . أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع . ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) ( 39 \ 55 ) وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة : ( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) ( 7 \ 145 ) . وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن ، فقد دلت عليه آيات من كتابه . واعلم أولا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب ، وأن المندوب أحسن من مطلق الحسن ، فإذا سمعوا مثلا قوله تعالى : ( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) ( 22 \ 77 ) قدموا فعل الخير الواجب ، على فعل الخير المندوب ، وقدموا هذا الأخير ، على مطلق الحسن الذي هو الجائز ، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، لا على مطلق الحسن ، كما قال تعالى : ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ( 16 \ 97 ) وقال تعالى : ( ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ) ( 39 \ 35 ) كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ( 16 \ 97 ) ، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن ، كما قال صاحب المراقي : ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن } أه . 2- قال تعالى : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } (الزمر : 55 ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في " مجموع الفتاوى " : { فإذا كان أحد الدليلين هو الأرجح فاتباعه هو الأحسن . وهذا معلوم ، فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره ، و هو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين . } أه . 3- قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ? فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } ( أل عمران : 7 } وجه الدلالة : أن الله سبحانه وتعالى ذم من يترك العمل بالقول الظاهر المحكم ، ويعمل بالقول الخفى المتشابه ، ويقاس عليه في الذم ترك القول الراجح الذى دلت عليه الأدلة ، والعمل بالمرجوح الواهى الدليل . 4- قال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ? لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ? وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ? وَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } ( التوبة : 19 20) وجه الدلالة : أن الله تعالى ذم من جعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، بالرغم مما بينهما من بون شاسع ، وبين أنهما لا يستويان عنده سبحانه وتعالى ، فمن آمن وهاجر وجاهد أعظم درجة عند الله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ، وكذلك الحال فمن ساوى بين القول الراجح ، والقول المرجوح بالرغم مما بينهما من تفاوت وعدم إستوائهما ، فقد وقع في مثل ما وقع فيه هؤلاء . ثانيا : من السنة :- وقد بينت السنة النبوية الشريفة ، ضرورة العمل بالقول الراجح دون المرجوح ، ومنها : 1- عن عقبة بن عمرو بن ثعلبة أبو مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتابِ اللهِ . فإن كانوا في القراءةِ سواءً . فأعلمُهم بالسُّنَّةِ . فإن كانوا في السُّنَّةِ سواءً . فأقدمُهم هجرةً . فإن كانوا في الهجرةِ سواءً ، فأقدمُهم سِلْمًا . } ( رواه مسلم ) و جه الدلالة : أمر النبى صلى الله عليه وسلم بتقديم الأقرأ ، والأعلم بالسنة ، والأقدم هجرة ، والأقدم سلما ، هو تقديم للراجح على المرجوح . 2- عن تميم بن طرفة الطائى قال : { جاء سائلٌ إلى عديِّ بنِ حاتمٍ . فسأله نفقةً في ثمنِ خادمٍ أو في بعضِ ثمنِ خادمٍ . فقال : ليس عندي ما أعطيك إلا دِرعي ومَغفري . فأكتبْ إلى أهلي أن يُعطوكَها . قال : فلم يرضَ . فغضب عديٌّ . فقال : أما واللهِ ! لا أعطيك شيئًا . ثم إنَّ الرجلَ رضيَ . فقال : أما واللهِ ! لولا أني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول ( من حلف على يمينٍ ثم رأى أتقى للهِ منها ، فليأتِ التَّقوى ) . ما حنثتُ يميني . } ( رواه مسلم ) وجه الدلالة : قوله صلى الله عليه وسلم { فليأت } فعل أمر ، يقتدى الوجوب ، أي وجوب ترك الفاضل ، وإتيان الأفضل منه ، وكذلك الحال بالنسبة لترك المرجوح ، والعمل بالراجح . ثالثا : من فعل الصحابة :- فقد عمل الصحابة رضوان الله عليهم بالراجح من القولين ، وتركوا العمل بالمرجوح ، لما ترجح عندهم دليل الأول ، ومن ذلك الآتى : 1- مسألة غسل الجنابة : فقد جاء الدليل بوجوب الإغتسال بمجرد إلتقاء الختانين ، حتى ولو لم ينزلا ، وجاء دليل آخر بوجوب الغسل في حالة الإنزال فقط ، فإن لم ينزلا فلا غسل عليهما ، فعن عائشة رضى الله عنها قالت : { إذا التقى الختانان فقد وَجَبَ الغُسْلُ . فعلتُه أنا ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فاغتسَلْنا . } ( رواه إبن ماجه وصححه الألبانى } وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : { خرجتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنينِ إلى قباءٍ حتى إذا كنا في بني سالمٍ وقف رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على بابِ عتبانَ فصرخ به فخرج يجرُ إزارَهُ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعجلنا الرجلَ ، فقال عِتبانُ : يا رسولَ اللهِ أرأيت الرجلَ يُعَجِلُ عن امرأتهِ ولم يُمْنِ ماذا عليه ؟ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنما الماءُ من الماءِ } ( رواه مسلم ) وقد إختلف الصحابة في العمل بأى الدليلين ، فرجحوا العمل بالأول لعمل النبى صلى الله عليه وسلم وعائشة به ، فعن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال : { اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار . فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء . وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل . قال : قال أبو موسى : فأنا أشفيكم من ذلك . فقمت فاستأذنت على عائشة . فأذن لي . فقلت لها : يا أماه ! ( أو يا أم المؤمنين ! ) إن أرد أن أسألك عن شيء . وإن أستحييك . فقالت : لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك . فإنما أنا أمك . قلت : فما يوجب الغسل ؟ قالت : على الخبير سقطت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومس الختان الختان ، فقد وجب الغسل } ( رواه مسلم ) فقد أخبرته عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم أوجب الغسل بإلتقاء الختانين أنزلا أم أكسلا . 2- مسألة صيام الجنب : وأيضا قد جاء الدليل بصحة صيام من أصبح جنبا ، وقد جاء الدليل الآخر بعدم صحة صيامة ، ورجح الصحابة رضوان الله عليهم صحة صيامة ، لأن عائشة أعلم بحاله صلى الله عليه وسلم ، فعن سليمان بن يسار رضى الله عنه أنَّهُ سأل أم سلمةَ رضيَ اللهُ عنها : { عن الرجلِ يُصبحُ جُنُبًا . أيصومُ ؟ قالت : كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصبحُ جنبًا ، من غيرِ احتلامٍ ، ثم يصومُ . } ( رواه مسلم ) وعن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر قال : سمعتُ أبا هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ يقصُّ ، يقول في قصصِه : { من أدركَه الفجرُ جنبًا فلا يصم . فذكرتُ ذلك لعبدِالرحمنِ بنِ الحارثِ ( لأبيهِ ) فأنكرَ ذلك . فانطلق عبدُالرحمنِ وانطلقتُ معَه . حتى دخلنا على عائشةَ وأم سلمةَ رضيَ اللهُ عنهما . فسألهما عبدُالرحمنِ عن ذلك . قال فكلتاهما قالت : كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصبحُ جنبًا من غيرِ حلمٍ ثم يصومُ . قال : فانطلقنا حتى دخلنا على مروانَ . فذكر لهُ ذلك عبدُالرحمنِ . فقال مروانٌ عزمتُ عليك إلا ماذهبت إلى أبي هريرةَ ، فرددتُ عليهِ ما يقول . قال : فجئنا أبا هريرةَ . وأبو بكرٍ حاضرٌ ذلك كلَّهُ . قال : فذكر لهُ عبدُالرحمنِ . فقال أبو هريرةَ : أهما قالتاهُ لك ؟ قال : نعم . قال : هما أعلمُ . ثم ردَّ أبو هريرةَ ما كان يقول في ذلك إلى الفضلِ بنِ العباسِ . فقال أبو هريرةَ : سمعتُ ذلك من الفضلِ . ولم أسمعْهُ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . قال : فرجع أبو هريرةَ عما كان يقول في ذلك . } ( رواه مسلم ) 3- مسألة الترجيح في ثبوت الخبر : وأيضا فقد عمل الصحابة بالقول الراجح في ثبوت الأحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فقدموا خبر الإثنين على خبر الواحد ، ومن ذلك : أ – ميراث الجدة : فقد قوَّى أبو بكر خبر المغيرة – في ميراث الجدة – بموافقة محمد بن مسلمة . فعن قبيصة بن ذوئيب رضى الله عنه قال : { جاءتِ الجدَّةُ إلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، تسألُهُ ميراثَها فقالَ : ما لَكِ في كتابِ اللَّهِ تعالى شيءٌ ، وما عَلِمْتُ لَكِ في سنَّةِ نبيِّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ شَيئًا ، فارجِعي حتَّى أسألَ النَّاسَ ، فسألَ النَّاسَ ، فقالَ المغيرةُ بنُ شعبةَ ، حضرتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أعطاها السُّدسَ ، فقالَ أبو بَكْرٍ : هل معَكَ غيرُكَ ؟ فقامَ مُحمَّدُ بنُ مَسلمةَ ، فقالَ : مثلَ ما قالَ المغيرةُ بنُ شعبةَ فأنفذَهُ لَها أبو بَكْرٍ ثمَّ جاءتِ الجدَّةُ الأُخرى إلى عمرَ بنِ الخطَّابِ رضيَ اللَّهُ عنهُ تسألُهُ ميراثَها ، فقالَ : ما لَكِ في كتابِ اللَّهِ تعالى شيءٌ ، وما كانَ القضاءُ الَّذي قُضِيَ بِهِ إلَّا لغيرِكِ ، وما أَنا بزائدٍ في الفرائضِ ، ولَكِن هوَ ذلِكَ السُّدسُ ، فإنِ اجتَمعتُما فيهِ فَهوَ بينَكُما ، وأيَّتُكُما خلَت بِهِ فَهوَ لَها } ( رواه أبو داود وضعفه الألبانى ) قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – في " تذكرة الحفاظ " : { كان أبو بكر – رضي الله عنه – أول من احتاط في قبول الأخبار } أه . ب – الإستئذان : و قوَّى عمر خبر أبي موسى – في الإستئذان – بموافقة أبي سعيد الخدري . فعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : { كنتُ في مجلِسٍ من مَجالِسِ الأنصارِ، إذ جاء أبو موسى كأنه مَذعورٌ، فقال : استأذَنتُ على عُمَرَ ثلاثًا ، فلم يؤذَنْ لي فرجَعتُ ، فقال : ما منَعك ؟ قلتُ : استأذَنتُ ثلاثًا فلم يؤذَنْ لي فرجَعتُ ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( إذا استأذَن أحدُكم ثلاثًا فلم يؤذَنْ له فليَرجِعْ ) . فقال : واللهِ لتُقيمَنَّ عليه بَيِّنَةً ، أمِنكم أحدٌ سمِعه منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؟ فقال أُبَيُّ بنُ كعبٍ : واللهِ لا يقومُ معَك إلا أصغَرُ القومِ ، فكنتُ أصغَرَ القومِ فقُمتُ معَه ، فأخبَرتُ عُمَرَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك .} ( رواه البخارى ) وفى رواية لمسلم : { . فقال عمرُ : أقِمْ عليه البيِّنَةَ . وإلا أوجعتُكَ } وفى رواية لأبى داود : { فقال عمرُ لأبي موسى : أما إني لم أتَّهِمْك ، ولكن خشيتُ أن يتقوَّلَ الناسُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . } ( صححها الألبانى ) قال الذهبى – رحمه الله – في " تذكرة الحفاظ " : { فالخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى و أرجح مما انفرد به واحد ، و في ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم ، إذ الواحد يجوز عليه النسيان و الوهم ، و لا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد . } أه . رابعا : من المعقول :- قال الشيخ نصار المرصد في بحثه " ضرورة العمل بالقول الراجح " : { 1- إن العقلاء يوجبون بعقولهم العمل بالراجح في الحوادث ، و الأصل تنزيل التصرفات الشرعية منزلة التصرفات المعرفية ، وورد في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه : { ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن } ( قال عنه الألبانى : لا أصل له مرفوعا ) بمعنى أن الظنين إذا تعارضا ، ثم ترجّح أحدهما على الآخر، كان العمل بالراجح متعيناً عرفاً ؛ فيجب شرعاً لقوله – صلى الله عليه و آله و سلم : { ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن } (المحصول في علم أصول الفقه للرازي ) 2- إن ترجيح المرجوح على الراجح، أو المساواة بينهما في الترجيح قبيح عقلاً ، فوجب العمل بالراجح . (ثمرات النظر في علم الأثر لابن الأمير الصنعاني ) 3- إنه لو لم يعمل بالراجح ، لزم العمل بالمرجوح ، و ترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بديهة العقول . (المحصول في علم أصول الفقه للرازي ) 4- إن العمل بالراجح أحرى من المرجوح ، لأن بيِّنة الراجح اختصت بما يفيد زيادة الظن فصارت الأخرى كالمعدومة إذ المرجوح مع الراجح كذلك . (شرح مختصر الروضة ) } أه . خامسا : من أقوال العلماء :- 1- قول شيخ الإسلام ابن تيمية : جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام إبن تيمية – رحمه الله - : { سئل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة و الرضوان ، عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب الأربعة ، و تبصر فيه ، و اشتغل بعده بالحديث ، فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخاً و لا مخصصاً و لا معارضاً ، و ذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث ، فهل له العمل بالمذهب ، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ، و مخالفة مذهبه ؟ فأجاب رحمه الله تعالى : { قد ثبت بالكتاب و السنة و الإجماع ، أن الله تعالى افترض على العباد طاعته و طاعة رسوله ، و لم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به و نهى عنه إلا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – حتى كان صديق الأمة و أفضلها بعد نبيها – صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنه – يقول :( أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ) ، و اتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما أمر به و نهى عنه ، إلا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و لهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه و يترك إلا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و هؤلاء الأئمة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه و ذلك هو الواجب . و قال أبو حنيفة – رحمه الله :( هذا رأيي ، و هذا أحسن ما رأيت ، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ). و لهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس و سأله عن مسألة الصاع ، و صدقة الخضراوات ، و مسألة الأحباس ، فأخبره مالك بن أنس بما دلت عليه السنة في ذلك ، فقال :( رجعت لقولك يا أبا عبد الله ، و لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت ). و مالك – رحمه الله – كان يقول :( إنما أنا بشر أصيب و أخطىء ، فاعرضوا قولي على الكتاب و السنة ) أو كلام هذا معناه . والشافعي – رحمه الله – كان يقول :( إذا صحّ الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ، و إذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي ). و في مختصر المزني لما اختصره ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه ، قال مع إعلامه و نهيه عن تقليده و تقليد غيره من العلماء : ( و الإمام أحمد – رحمه الله – كان يقول : من ضيق علم الرجل أن يقلد دينه الرجال . قال : لا تقلد دينك الرجال فإنهم لم يسلموا أن يغلطوا ). و قد ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه و سلم – أنه قال : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) ، و لازم ذلك أن من لم يفقهه في الدين لم يرد به خيراً ، فيكون التفقه في الدين فرضاً ، و التفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً في الدين ، لكن من الناس من قد يعجز عنها فيلزمه ما يقدر عليه . و أما القادر على الاستدلال فقيل : يحرم عليه التقليد مطلقاً ، و قيل : يجوز مطلقاً ، و قيل : يجوز عند الحاجة ، كما إذا ضاق الوقت عند الاستدلال ، و هذا القول أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى . و الاجتهاد ليس هو أمراً لا يقبل التجزُّؤ و الإنقسام ، بل يكون الرجل مجتهداً في فنٍ ، أو بابٍ ، أو مسألةٍ دون فنٍ و بابٍ و مسألةٍ ، و كل فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة قد تنازع العلماء فيها ، فرأى من أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً بعد نظر مثله فهو بين أمرين : إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه و مثل هذا ليس بحجة شرعية . بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره ، و اشتغاله بمذهب إمام آخر . و إما يتبع القول الذي ترجح بنظره بالنصوص الدالة عليه فحينئذٍ موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام . و تبقى النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل ، فهذا هو الذي يصلح ، و إنما تنزّلنا هذا التنزيل لأنه قد يقال : إن نظر هذا قاصر و ليس اجتهاده تاماً في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه ، و أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص و إن لم يفعل كان متبعاً للظن و ما تهوى الأنفس ، و كان من أكابر العصاة لله و لرسوله بخلاف من يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص و قال النبي – صلى الله عليه و سلم :( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ، و الذي تستطيعه من العلم و الفقه في هذه المسألة قد دلَّ على أن حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده ، و انتقال الإنسان من قولٍ إلى قولٍ لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه ، بخلاف إقراره على قولٍ لا حجة معه عليه ، وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قولٍ إلى قولٍ بمجرد دعوى و اتباع هوى ، فهذا مذموم . و إذا كان المقلد قد سمع الحديث و تركه ، لا سيما إذاكان قد رواه أيضاً عدل ، فمثل هذا وحده لا يكون عذراً في ترك النص ، فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح أو روايه مجهول و نحو ذلك . و يكون غيره قد علم صحته وثقة راويه فقد زال العذر ذلك في حق هذا . و من ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه ، أو القياس أو عمل لبعض الأمصار، و قد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه ، و أن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، و مقدم على القياس و العمل ، لم يكن عند ذلك الرجل عذرٌ في حقه ؛ فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان و خفاءها عنها أمر لا يُضبَط طرفاه ، لاسيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه يترك العمل به المهاجرون و الأنصار، أهل المدينة النبوية و غيرها الذين يقال إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح و قد بلغ من بعدهم أن المهاجرين و الأنصار لم يتركوه بل قد عمل به بعضهم أو من سمعه منهم و نحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص . و إذا قيل لهذا المستفتي المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلاني ؟ كانت هذه معارضة فاسدة ؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة و لست من هذا و لا من هذا . و لكن نسبة هؤلاء الأئمة إليَّ نسبة أبي بكر و عمر و عثمان و علي و ابن مسعود و أبيِّ و معاذ و نحوهم إلى الأئمة غيرهم . فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله و رسوله ، و إن كان بعضهم يكون أعلم في مواضع أخر، و كذلك موارد النزاع بين الأئمة ، و قد ترك الناس قول عمر و ابن مسعود – رضي الله عنهما – في مسألة تيمم الجنب ، و أخذوا بقول أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه وغيره لما احتج بالكتاب و السنة و تركوا قول عمر – رضي الله عنه- في دية الأصابع و أخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – لما كان في السنة : أن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال : ( هذه و هذه سواء ..) ، و قد كان بعض الناس يناظر ابن عباس – رضي الله عنهما – في المتعة فقال له : قال أبو بكر و عمر، فقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و تقولون قال أبو بكر وعمر . و كذلك ابن عمر – رضي الله عنهما – لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم : أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر؟ مع علم الناس بأن أبا بكر و عمر أعلم من ابن عمر و ابن عباس – رضي الله عنهم . و لو فتح هذا الباب لأوجب أن يُعرض عن أمر الله و رسوله ، و بقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته ، و هذا تبديل للدين و شبيه بما عاب الله به النصارى في قوله : ( اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً سبحانه عما يشركون ). و الله سبحانه أعلم . } أ.ه 2- قول ابن قيم الجوزية : قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في " إعلام الموقعين " : { كان الإمام أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه و لم يلتفت إلى ما خالفه ، و لا من خالفه كائناً من كان ، و لذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ، و لا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر، و لا إلى خلافه في استدامة المُحرم للطيب الذي يطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك ، و لا إلى خلافه في منع المنفرد و القارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ . و كذا لم يلتفت إلى قول علي وعثمان و طلحة و أبي بن كعب – رضي الله عنهم – في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة : أنها فعلته هي و رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فاغتسلا. و لم يلتفت إلى قول ابن عباس ، و إحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الأسلمية . و لم يلتفت إلى قول معاذ و معاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما . و لم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه و لا إلى قوله بإباحة لحوم الحُمُر كذلك و هذا كثيرجداً . } أه . خامسا : أقوال العلماء في النهى عن تتبع الرخص المذموم :- قال إبن عبدالبر – رحمه الله – فى " جامع بيان العلم وفضله " : { قال سليمان التيمي : " إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " قال أبو عمر ابن عبد البر : هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً } أه . وقال الذهبى – رحمه الله – فى تذكرة الحفاظ " : { قال الأوزاعي : " من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام " } أه . وقال البيهقى – رحمه الله – فى " شعب الإيمان " : { قال الأوزاعي: " من أخذ بنوادر العلماء فبفيه الحجر " } أه . وقال الشاطبى – رحمه الله – فى " الموافقات " : { عن ابن مبارك أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله . } أه . وقال أيضا فى " الموافقات " : { فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه فقد خلع ربقة التقوى وتمادى في متابعة الهوى ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه } أه . وقال بعض العلماء : { من تتبع الرخص فقد تزندق } أه . وقال أبو بكر بن الخلال – رحمه الله – فى " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " : { قال الإمام أحمد : لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع (يعني الغناء) وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا . } أه . وقال الذهبى – رحمه الله - فى " سير أعلام النبلاء " : { قال إبراهيم بن شيبان من أراد أن يتعطَّلَ فليزم الرُّخَص } أه . وقال ابنُ حزم – رحمه الله فى " الإحكام " : { وطبقةٌ أخرى وهم قومٌ بلغت بهم رقَّةُ الدين ، وقلَّةُ التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قولِ كلِّ قائلٍ فهم يأخذون ما كانَ رخصةً من قولِ كلِّ عالمٍ مقلدين له غيرَ طالبيين ما أوجبه النصُّ عن الله تعالى وعن رسوله صلي الله عليه وسلم } أه . وقال أبو عمرو ابنُ الصلاح – رحمه الله – فى " آداب المفتى " : { وقد يكون تساهُلُه وانحلالُه بأن تحملَهُ الأغراضُ الفاسدةُ على تتبُّع ِ الحيل المحظورةِ أو المكروهةِ ، والتمسُّكِ بالشُّبَهِ طلباً للترخيصِ على من يرومُ نفعُه أو التغليظُ على من يريدُ ضرَّه ، ومن فعل ذلك فقد هانَ عليه دينه } أه . وقال سلطانُ العلماء العزُّ بنُ عبد السلام : { لا يجوزُ تتبُّعُ الرخص } وسُئل الأمامُ النوويُّ فى " فتاوى النووي جمع تلميذه ابن العطار " : { هل يجوزُ لمن تمذهب بمذهب أن يقلِّد مذهباً آخر فيما يكون به النفعُ وتتبعُ الرخص ؟ فأجاب : لا يجوزُ تتبُّع الرخص ، والله أعلم } أه .. وقال الإمامُ ابنُ القيمّ – رحمه الله – فى " إعلام الموقعين " : { لا يجوزُ للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظرٍ في الترجيح } أه . وقال العلاّمةُ الحجَّاوي – فى " الإمتاع " : { لايجوز للمفتي ولا لغيره تتبُّعُ الحيل المحرَّمةٍ ولا تتبُّعُ الرخص لمن أراد نفعَهُ ، فإنَّ تتبُّعَ ذلك فسقٌ ، وحَرُمَ استفتاؤُه } أه . وقال العلاّمة السفاريني – رحمه الله – فى " لوامع الأنوار " : { يحرُمُ على العاميِّ الذي ليس بمجتهد تتبُّعُ الرخص في التقليد } أه . سادسا : أمثلة للترخص المذموم :- 1- القول بالإكتفاء بشهادة أن لا إله إلا الله للدخول فى الإسلام ، دون الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم . 2- القول بجواز شرب القليل من الخمر ، دون كثيره ، والقولُ بجواز شرب المسكر إلا من العنب . 3- القول بجواز التضحية بالطيور كالديوك ، و البط ، والدجاج وغيرها . 4- القول بجواز زواج المتعة . 5- القولُ بصحة عقد الزواج بدون وليِّ ومهر . 6- القولُ بعدم اشتراط الشاهدين في عقد الزواج . 7- القولُ بجواز إتيان النساء في أدبارهن . 8- القولُ بجواز استماع الملاهي . 9- القولُ بجواز حلق اللحية . 10- القولُ بجواز القيمة في زكاة الفطر . سابعا : حرمة التساهل فى الفتوى :- يحرُم التساهل في الفتوى بدعوى التيسير ، كما يَحرُمُ استفتاء من عُرِف بالتساهل ، ما لم يَكُن المفتي صادراً عن دليلٍ شرعيٍّ ( من الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس ) منضبط . قال الإمام الشافعي - رحمه الله – فى " الأم " : { لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً أن يحكم و لا أن يفتي إلا من جهةِ خبرٍ لازمٍ ... و ذلك الكتاب و السنة ، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه ، أو قياس على بعض هذا ، و لا يجوز له أن يحكم و لا يُفتي بالاستحسان } أه . وقال النووي - رحمه الله – فى " آداب الفتوة والمفتى " : { يحرم التساهل في الفتوى و من عُرِف به حرم استفتاؤه } أه و قال ابن الصلاح - رحمه الله – فى " فتاوى إبن الصلاح " : { لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى , و من عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى , و ذلك قد يكون بأن لا يَتثبَّت و يسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر و الفِكر, و ربّما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعةٌ , و الإبطاءَ عجزٌ و منقصة ، و ذلك جهلٌ ، و لأن يُبطئ و لا يخطئ , أجمل به من أن يَعْجَلَ فيضلَّ و يَضِلَّ } أه . و قال ابن مفلح الحنبلي - رحمه الله – فى " الفروع " : { يحرم تساهل مُفتٍ في الفتيا ، و تقليد معروفٍ به } أه . و قال في " المبدع " : { يحرم التساهل في الفتيا ، و استفتاء من عُرف بذلك } أه . ولا يجوز الإستدلال بما ورد عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه و سلم : { ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بين أمرينِ ، أحدهما أيسرُ من الآخرِ ، إلا اختارَ أيسرَهما . ما لم يكن إثمًا . فإن كان إثمًا ، كان أبعدَ الناسِ منهُ .} ( رواه مسلم ) بالتساهل فى الفتوى والعمل بالأيسر من أقوال الفقهاء حتى ولو كان شاذا ، وذلك للآتى : الأول : أنَّ الاختيار واقع منه صلّى الله عليه و سلّم فيما خُيّر فيه ، و ليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به ، هو أو أمّته ، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما . و الثانيّ : تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً ، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( و من باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء و الثالث : أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين ، و هذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا ، و منهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في " الفتح " : { قولُه بين أمرين : أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح ، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين } أه . و الرابع : أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلّى الله عليه و سلّم الأشقَّ على نفسه ، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر . قال الحافظ في " الفتح " : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً ، و بين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف ، و إن كانت السعة أسهل منه ، و الإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له } أه . ثامنا : الحذر من أئمة الضلال :- فقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم من أئمة الضلال ، الذين يفتون للناس الأخذ بالرخص بالتلهى ، وترك العمل بالقول الراجح ، فيجب على كل مسلم أن يحذرهم ، وأن يتقى شرهم ، وألا يستمع لهم ، وألا يتبع أقوالهم الشاذة التى خالفوا فيها جمهور العلماء ، ولا يترخص بأقوالهم التى ينقلونها عن شواذ العلماء ، فعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال : { كان الناسُ يَسأَلونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الخيرِ ، وكنتُ أسأَلُه عنِ الشرِّ ، مَخافَةَ أن يُدرِكَني ، فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ ، فهل بعدَ هذا الخيرِ من شرٍّ ؟ قال : ( نعمْ ) . قلتُ : وهل بعدَ ذلك الشرِّ من خيرٍ ؟ قال : ( نعمْ ، وفيه دَخَنٌ ) . قلتُ : وما دَخَنُه ؟ قال : ( قومٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَديِي ، تَعرِفُ منهم وتُنكِرُ ) . قلتُ : فهل بعدَ ذلك الخيرِ من شرٍّ ؟ قال : ( نعمْ ، دُعاةٌ على أبوابِ جَهَنَّمَ ، مَن أجابهم إليها قَذَفوه فيها ) . قلتُ : يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا ، قال : ( هم من جِلدَتِنا ، ويتكَلَّمونَ بألسِنَتِنا ) . قلتُ : فما تأمُرُني إن أدرَكني ذلك ؟ قال : ( تَلزَمُ جماعةَ المسلمينَ وإمامَهم ) . قلتُ : فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ ؟ قال : ( فاعتَزِلْ تلك الفِرَقَ كلَّها ، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ ، حتى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك ) } ( رواه البخارى ) والله الموفق . نائب رئيس هيئة قضايا الدولة – الكاتب بمجلة التوحيد