ليس كل ما نشاهده على شاشات التلفزة يجعلك تستمر في المتابعة، ففي اغلب الأوقات نتنقل بين القنوات الفضائية دون جدوة، لنجد انفسنا في النهاية لا نشاهد شيئاً . عندما استقر بي الحال علي احدي القنوات ، بعد العثور علي شئ يستحق المشاهدة كان من نصيب فيلم "البوسطجي " انتاج عام 1968 ، وهو احدي روائع المجموعة القصصية " دماء وطين " للروائي الكبير يحيي حقي، هذه القصة التي تحولت إلى فيلم سينمائي علي ايدي المبدع الصحفي "صبري موسي "كاتب السيناريو بالمشاركة مع "دنيا البابا " واخراج المخرج المتميز " حسين كمال " وبطولة العبقري " شكري سرحان ". كوكبة من المبدعين اشتركوا معا لإخراج هذه القصة بهذا الجمال الفني والروعة التجسيدية، ففي كل مشهد من مشاهد الفيلم تنقلك الكاميرا الي الواقع الحقيقي لحياة المصريين، وتظهر جلياً صورة صراع المدينة والريف، فيحيي حقي تأثر كثيراً كما ذكر في برنامج "كاتب قصة " المذاع وقتها علي القناة الثانية مع الاعلامية سميرة الكيلاني بالبيئة الصعيدية مدينة " منفلوط " وكانت ظاهرة بقوة في البوسطجي، واستطاع عن جدارة تحقيق الموازنة الصعبة في نقل الواقع الي قصة قصيرة تنفرد بكل تفاصيل حياتة خلال السنتين . ولم يبخل ايضاً كاتبي السيناريو في انجاح التوليفة وكذلك حسين كمال الذي نقل الصورة الحية علي الشاشه وكأنك تعيش الأحداث الواقعية وليس تشاهدها، فيظهر اضطراب " شكري سرحان " الداخلي... وكيف يواجه صراعاً داخلياً يظهر في انفعالاتة مع مساعده بالمكتب؟ ... وكيف لجأ سرحان الي فك العقدة المتأرجحة بداخلة بطريقة سيئة، وهي التعرف علي احوال اهل القرية من خلال فتح المراسلات، ومع كل خطاب يفتحة "عباس " قصة جديدة وحكاية جديدة لواحد من اهل القرية ، ومشهد بكاء البطل متحسرا كان دليلاً قوياً علي عدم الرضا بما قام به، وانتهت مشاهد الفيلم وهي مبتعده عن التعقيد مع جو موسيقي مفعم بالاحساس. في احدي المشاهد التي تجمع بين "شكري سرحان " و "حسن مصطفى " وهو المشهد الذي ينادي فيه شكري سرحان " انتي يابني ادم " ويرد حسن مصطفى... متقوليش يابني ادم انت متعرفش اني قريب العمدة... مشهد غاية في الروعة والإبداع، أظهر صورة المحسوبية المتوطنه بمجتمعنا ولم تفارقنا منذ 49 سنة وباتت احدي امراض المجتمع التي تستوجب العلاج . الفيلم جسد فكرة الحب ايضاً بين " خليل وجميلة " اللذان يعيشان اجمل لحظات عمرهما وعالجها معالجة واقعية، وبرهن علي اهمية دور الاسرة في قراءة افكار ابنائها ، واتساع هوية الاختلاف في القرية والمدينة في تقبل فكرة الحب، ومدي سوء نتائجها، التي قد تأتي بمصيبة لن يتوقعها احد. اظن ان الجميع نجحوا في نقل حدوتة القصة كما ارادها يحيي حقي، بدأ من السيناريو الدثم والتمثيل الرائع لشكري سرحان كما عهدناه طيلة مشواره الفني واخراج محكم برؤية مخرج مخضرم كحسين كمال ومجموعة عمل تفاوتوا في درجات الابداع والتميز الحقيقي، هذا هو الفن الباقي الذي يتحدث بكل اللغات في كل الازمان.