حالة من الغموض تلوح فى الأفق المصرى تلقى بظلالها على المستويات السياسية كافة والشعبية تطرح تساؤلات مهمة: هل هى فعلاً حالة طارئة مرتبطة بطبيعة المراحل الانتقالية ؟ أم أنها سمة متجذرة فى الذات المصرية؟. الغموض ليس غريبًا عن البيئة المصرية، فالحضارة الفرعونية أكثر الحضارات غموضًا، ونبوغ الفراعنة فى السحر وتحنيط الموتى ومراسم الدفن كرَّس هذه الفكرة، واستمر الغموض فى العصر الإسلامى وذلك بانتشار المد الصوفى الذى ارتبط بالكرامات والخوارق والدجل والشعوذة، وصنع عوالم من الأوهام بعيدة عن المعانى الحقيقية للتصوف، وبعيدة أيضًا عن احترام العقل، فغموض المصريين ممتد من المعبد الفرعونى إلى الدير القبطى إلى الحضرة الصوفية، ولا شك أن الاستبداد السياسى ساهم فى تأصيل هذه الحالة فى الشخصية المصرية والتى بلغت أوجها فى الفترة الحالية بدخول لاعبين جدد على الساعة السياسية، والغريب واللافت للنظر أن كل هذه النخب "المجلس العسكرى، الإخوان المسلمون، السلفيون، القوى الليبرالية والعلمانية، الفلول" تمارس هذا النوع من الغموض السياسى بشكل أرهق المحللين السياسيين وحولهم إلى ضاربى ودع، كما أن المؤسسات الدينية الرسمية "الأزهر – الكنيسة المصرية" تورطت فى ممارسة هذه الظاهرة. والمؤشر الأهم أن الشعب نفسه قد مارس قدرًا كبيرًا من الغموض فى هذه المرحلة، فالشعب المصرى فى مجمله لم يحسم خياره الثورى حتى الآن، فعين على الفلول، وعين على الإخوان، وظهر لشباب الثورة، كما أنه لم يحسم خيار الدولة "دينية – مدنية – عسكرية" فهم يصوتون للإخوان ولا يقبلون مشروعهم ولا يحاولون الاقتراب منه، و يمارسون حياة أقرب لحياة الدولة المدنية لكنهم يؤكدون رفضهم لها، يتحدثون عن الديمقراطية ليل نهار ولا يمارسونها، يتغنون بأدب الحوار وثقافة الحوار وحقوق الطرف الآخر، ثم يصادرون كل ذلك عند الممارسة الفعلية. والسؤال الذى لا أجد له إجابة لماذا هذا الموقف الشعبى الغامض؟ فمواقف النخب الغامضة لها ما يبررها فتلك النخب تتصارع على السلطة وتعمل فى جو ملئ بالمساومات وتوازنات القوى والمصالح، أما الشعب فهو الخاسر الأكبر من هذا الموقف الغامض أو الثقافة الغامضة، وعليه أن يتحمل مسئولياته تجاه ثورته كى لا تفشل ويفشل هو معها، فصوت الشعب المرتعش المذبذب بين هؤلاء وهؤلاء لا يصنع وطنًا ولا يحدث نهضة، وسيصبح البوق الذى تعلو به أصوات الصائحين باسم الشعب، الذين لا يسمعون إلا أنفسهم فيعتقدون أنهم قد حازوا رضا الشعب فيتجبرون باسمه ويبطشون بمستقبله.