الأحداث الأخيرة في مالي، أثارت أسئلة عديدة، ربطت بين ماتشهده من انقلاب عسكري وحركات تمرد وانفصال في الشمال وبين ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر ثم ليبيا في أقصى شمال القارة السمراء. وحظيت الأحداث الأخيرة في مالي - تلك الدولة الواقعة غربي إفريقيا- باهتمام إقليمي ودولي كبيرين؛ خوفا من تراجع تجربتها الديمقراطية المتميزة بين دول القارة، والتي دامت عشرين عاما بعد نجاح الانفصاليين في الشمال، في إعلان دولتهم المستقلة، وحتى وقت قريب كانت مالي تمثل قصة من قصص النجاح الإفريقية الكبيرة، وهي الآن تتعرض للاختبار. واللافت للنظر أن سياسات الغرب فى المنطقة، ربما تكون قد ساهمت -بشكل غيرمقصود- في المشكلة التي تشهدها مالي حاليا؛ فهي قارة لا تتمتع بسمعة طيبة في مجال نظم الحكم الديمقراطية، تميزت مالي بتجربتها الفريدة التي مكنت هذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها 12 مليون نسمة، أن ترسي مبادئ الديمقراطية خلال العشرين عاما الماضية. وبعد أن اطاح مواطنو مالي بالديكتاتورية العسكرية عام 1991، عقدوا جمعية وطنية لوضع دستور يضمن حرية الصحافة و اللامركزية في الحكم، وهو أمر كان من الصعب التوصل إليه، وأعقب ذلك إجراء انتخابات رئاسية كل خمس سنوات، نجح خلالها مواطنو مالي، ذوات الأغلبية المسلمة، في الالتزام بتلك المبادئ. وقبل شهر واحد من حلول موعد جولة الانتخابات الرئاسية المقررة في نهاية الشهر الحالي، باغت قادة الانقلاب العسكري العالم، بانقلابهم على نظام الحكم الديمقراطي، استباقا للانتخابات التي لم يكن الرئيس المالي أمادو توماني توريه مرشحا فيها، حيث أمضى فترتين رئاسيتين ولا يحق له الترشح مجددا. في المقابل، سارعت جميع الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني إلى تشكيل جبهة موحدة أجمعت على هدف واحد، ألا وهو رفض حكم العسكر والمطالبة بعودة الحكم المدني، لتضع المجلس العسكري في مأزق. وكان من الواضح أن قائد الانقلاب أماندو سانوجو لم تكن لديه أية خطة حقيقية لإخراج نفسه من هذا المأزق، فبدت أفعال المجلس العسكري غير متسقة، فبعد أن قاموا بالانقلاب بزعم التصدي للمتمردين في الشمال، سعوا بعد ذلك إلى مفاوضات للسلام مع المتمردين من الطوارق، كما أعلنوا عن دستور جديد، قاموا لاحقا بإلغائه، ودعوا إلى مؤتمر وطنى، اضطروا إلى إلغائه عندما قاطعه المعارضون في الداخل. ولعبت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وهي منظمة إقليمية فعالة، دورا محوريا في دعم نظام الحكم الديمقراطي في مالي ورفض الانقلاب عليه بحكم عسكري، حيث فرضت عقوبات صارمة على المجلس العسكري، وهددت بالتدخل العسكري إذا لم يتم استعادة نظام الحكم الدستوري بالبلاد. وأفلحت جهود التوصل إلى تسوية بواسطة إيكواس مؤخرا، عندما ظهر رئيس مالي أمادو توريه، بعد فترة طويلة من الغموض حول مكان تواجده، ليقدم استقالته كجزء من التسوية التي تم التوصل إليها مع قادة الانقلاب العسكري الذين سلموا السلطة الآن إلى الجمعية الوطنية. ومن المفترض أن تمهد استقالة توريه الطريق إلى انتخابات رئاسية جديدة، لكن يبقى علينا الانتظار لنرى هل تستطيع المؤسسات الديمقراطية في مالي التعافي من الخسائر التي لحقت بها. وبحسب جريجوري مان الباحث بمجلة "فورين بوليسى" الأمريكية فإنه ليس من قبيل المبالغة أن نصف ما حدث فى مالي خلال الأسابيع الماضية بالفوضى العارمة، من انقلاب مفاجئ إلى تمرد متصاعد أدى إلى انقسام البلاد إلى قسمين، بعد أن أعلن المتمردون في السادس من أبريل الحالي أن الأراضي التى تحت سيطرتهم، وتفوق مساحتها مساحة فرنسا، دولة مستقلة أطلقوا عليها اسم دولة إزواد. ويرى كريستيان كاريل أحد كبار الباحثين بمعهد ليجاتوم والمحرر بمجلة "فورين بوليسى" أن استعادة تلك الأراضى فوق قدرة الجيش المالي، كما أن الفشل فى استعادتها سيؤدي دون شك إلى توجيه ضربة قاصمة لمصداقية الحكومة، في ما يبدو أنه فترة انتقالية هشة. من ناحية أخرى، يرى مراقبون أن الأزمة الأخيرة في مالي ليست بجديدة تماما؛ فعلى مدى عقود كانت حكومات مالي تكافح ضد هجمات متفرقة من التمرد شمالى البلاد القاحل الذى يقطنه الطوارق، الذين يعيشون في أنحاء الصحراء والساحل. يزيد الأمر صعوبة أنه لاتوجد قواسم مشتركة بين الطوارق ومواطني مالي فى الجنوب، الذين يميلون إلى أن يكونوا أقرب من الناحية الثقافية وأسلوب التفكير إلى الأفارقة الساحليين الذين يسيطرون على البلاد حتى الجنوب. ولم ينجح الطوارق منذ التسعينيات فى إحراز تقدم كبير، حتى أن جيش مالي الضعيف الأعداد استطاع احتواء التمرد. لكن الأوضاع جميعها تغيرت في يناير من العام الحالي، عندما ظهر فجأة من العدم جيش الانفصاليين الطوارق، وأحرز عدة انتصارات في الشمال، مجبرا قوات الجيش على انسحاب مذل. واستغل الانفصاليون الطوارق عبر حركة، أطلقوا عليها اسم "الحركة الوطنية لتحرير إزواد" الفوضى في العاصمة باماكو؛ للسعي إلى تحقيق حلمهم في دولة مستقلة، أطلقت عليها "الأزواد"، وهو إقليم يشمل معظم صحراء مالي شمالى وشرق تمبكتو. ودخل الطوارق و العديد من الحركات المتمردة فى الصحراء حربا مع الجيش منذ يناير الماضي، عانى خلالها الجيش من إهانة مزدوجة، فقد أمر الرئيس المالي توريه قواته بالانسحاب بدلا من القتال، كما أن الوحدات التي رفضت الانسحاب وواصلت القتال تم سحقها. ونتيجة لتلك الهزائم، والتى من أبرزها حادثة بشعة شهدت ذبح رقاب الجنود المنهزمين فى بلدة أجويلهوك الشمالية، ونشر صورهم على نطاق واسع، شن ضباط الجيش الغاضبين انقلابا عسكريا في العاصمة باماكو، متهمين الرئيس توريه بالفشل في تقديم الدعم الكافي للقوات المسلحة. ورغم أن حركة الطوارق الانفصالية لديها نزعة علمانية وطنية، إلا أن التمرد فى الشمال ساعد المتطرفين الإسلاميين على توسيع قبضتهم على البلاد، فقد دخلت حركة الطوارق فى تعاون مع حركة "أنصار الدين" وهي حركة إسلامية يقودها أياد غالي، أحد الطوارق الذين قادوا تمردا كبيرا فى التسعينات، وخاض مسيرة تعد دلالة على تشابك التحالفات فى المنطقة، فقد كانت آخر مهمة له فى ليبيا، وأشارت تقارير إلى أن الحكومة الانتقالية الليبية شجعته على قيادة قوة من مقاتلي الطوارق الذين كانوا ضمن قوات أمن معمر القذافي.وبدا مكسب الثوار الليبيين خسارة لحكومة مالي، حيث أحضر إياد غالي عشرات الرجال المسلحين إلى البلاد، فى الوقت الذى كانت فيه الأوضاع مشتعلة في الشمال. ولا يهتم مقاتلو "أنصار الدين" بأزواد المستقلة مثلما يهتمون ببرنامجهم الإسلامى المتطرف، ولكن علمهم يرفرف الآن على البلدتين الشماليتين: تمبكتو و جاو، فيما يبدو أن أهدافهم طويلة المدى، لا تتفق وأهداف حركة الطوارق، التي ترغب فى أن ينظر إليها على أنها حركة وطنية علمانية شرعية. وفي محاولة لتفسير النجاح الساحق الأخير للمتمردين الذين ظلوا يشنون هجمات سابقة فى التسعينات وفي الفترة بين عامي 2007 و 2009، يقول كريستيان كاريل، أحد كبار الباحثين بمعهد ليجاتوم، والمحرر بمجلة "فورين بوليسى، إنه: "رغم تعقد الأسباب إلا أنه يقفز إلى الذهن على الفور انهيار نظام القذافي فى ليبيا، فقد بدأت الثورة الليبية ضد القذافي في فبراير 2011 وبعد أسابيع قليلة قرر حلف شمال الأطلنطى التدخل وتقديم غطاء جوي للمعارضة الليبية المسلحة التي تمكنت فى النهاية من إلقاء القبض على القذافى و قتله فى العشرين من أكتوبر، ليعلن المجلس الوطنى الانتقالى تحرير البلاد، رغم عدم تمكنه من فرض سيطرته المركزية على الدولة التى يغمرها السلاح. وبعد سقوط القذافي بأسابيع قليلة شن الطوارق حملتهم في شمالى مالي. ويرى كريستيان كايلر أن أغلب مقاتلى حركة الطوارق قد جاؤوا من ليبيا، فقد كان القذافى، الذى لم يكن يثق فى الجيش الليبى، يلجأ الى استجلاب قوات مرتزقة من الدول الإفريقية من أجل أمنه الشخصى وأمن حكمه، وكان مقاتلو الطوارق من بين تلك القوات، كما تبنى القذافى العديد من الحركات الانفصالية فى أنحاء إفريقيا كوسيلة لتأكيد نفوذه في القارة. لفت الكس ثارستون المحرر بمدونة "الساحل" إلى أن القذافى هو من توسط لوقف إطلاق النار في تمرد الطوارق عام 2009، ومع سقوط راعيهم، وأن الانفصاليين، الذين كانوا يتخذون ليبيا مقرا لهم، لم يعد لديهم سبب فى البقاء هناك كما أنهم رأوا ترسانات الأسلحة التى أصبحت متاحة بصورة مفاجئة و لاتتمتع بالحراسة فرصة سانحة لا يجب إهدارها، فيما يؤكد أن الحرب الأهلية فى ليبيا كانت سببا مباشرا فى نجاح تمرد الطوارق. ويتساءل جريجورى مان، الباحث بمجلة "فورين بوليسى" الأمريكية: هل الثورة الليبية وتدخل قوات حلف شمال الأطلنطى ساهم فى إشعال فتيل التحالف بين الفصائل المتمردة، فى شمال مالى، وأطلق العنان للقوات المتمردة مما أدى إلى سقوط التجربة الديمقراطية بها ؟، وهل سقطت مدينة تمبكتو في أيدي المتمردين، لأن حلف شمال الأطلنطى أنقذ بنغازى؟.ويجيب بأن أغلب المراقبين لا يتفقون مع هذا الرأى؛ فالبعض يعتقد أن الصراع كان حتميا، سواء بمقاتلين من ليبيا أو بدونهم، فيما يرى آخرون وجود تأثير مباشر من ليبيا، أدى إلى إخلال التوازن الهش. ويؤكد جريجورى مان، أنه لايمكن إنكار أنه نتيجة الثورة الليبية وقع أشد وأقوى تمرد فى صحراء مالي، لم يمكن التنبؤ به فقط، بل كان متوقعا، وكل من كان يتابع الأوضاع فى مالي، كان يرى أنه قادم من بعيد. ويرصد نونيهال سينج أستاذ العلوم السياسية بجامعة نوتردام، أنه بحلول يناير حدث تحول فى ميزان القوى في مالي، وكان أحد أسباب ذلك هو تدفق المقاتلين والأسلحة من ليبيا. ويثير هذا التساؤل حول ما إذا كانت واشنطن و حلفاؤها قاموا بجهد كاف فيما يتعلق بتوقع الآثار الجانبية المحتملة لتدخلهم فى ليبيا. يقول سينج إنه كان يجب أن يدرك صناع السياسة المخاطر التي من أهمها فراغ القوة في الشمال مما سيخلق جنة أمنة للمتمردين من عناصر القاعدة فى المغرب الإسلامى، ولكن من الواضح أن المخططين فى حلف شمال الأطلنطى ركزوا فقط على المهمة الرئيسية وهى القضاء على القذافى ودعم المقاومة الليبية. ويرى كريستيان كايلر أن الأحداث الأخيرة فى مالي تقدم درسا تحذيريا هاما، ألا وهو أنه فى حالة وجود مبررات إنسانية عديدة للتدخل واستخدام القوة ضد حكم ديكتاتوري، يجب على واضعي السياسات التمعن جيدا في الآثار الجانبية لأفعالهم. ويشير توم مالينوسكى من منظمة "هيومان رايتس ووتش" أن المنظمة حثت حلف شمال الأطلنطي مرات عديدة على اتخاذ خطوات لمنع تدفق الأسلحة من ترسانة القذافى، لكنه اعترف بأن المهمة لم تكن سهلة. ويرى جريجورى مان، أن علامات فشل سياسة الولاياتالمتحدة المناهضة للإرهاب فى مالي كانت عديدة وواضحة للعيان؛ فبرامج التعاون والتدريب المشترك لم تساعد جيش مالي على الصمود في الشمال، وكل برامج التدريب لم تقنع الرئيس توريه بأن يقود مالي إلى حرب وصفها بأنها "حرب الآخرين" فى الصحراء. ويضيف: "الآن لم يعد القرار بيده، ولن يكون أمام القيادة المستقبلية للبلاد خيار إلا أن تخوض حربًا أصبحت ضرورية؛فالأراضي الوطنية لمالي أصبحت مقسمة، ولن تقبل مالي ولا جيرانها بتقسيمها، بحكم الأمر الواقع.