أن السياسات الاقتصادية الرشيدة تقتضي بقدر الإمكان تجنب تمويل الأنشطة الاستهلاكية بمصادر أجنبية حتى لو كانت منح أو هبات لا ترد. فغالبا ما يصحب ذلك استيراد أنماط استهلاكية لا تناسب قدرات الاقتصاد المصرفي الحال أو في المآل المنظور ما يؤدي لإثقال كاهل غالبية المجتمع المصري. نؤكد على أهمية التركيز على العناصر الهادفة إلى تحرير الاقتصاد من هيمنة قطاع النفط والتأكيد على أهمية التصرف الرشيد بالإيرادات النفطية ورفع مستوى النشاط الاستثماري والإنتاجي وتعزيز دور القطاع الخاص كسبيل وحيد لزيادة الدخول والتوظيف والتحسن في مستويات المعيشة على أن يقترن ذلك ببرنامج اقتصادي يهدف إلى توظيف الإيرادات النفطية لصالح الاستثمار العام في برامج ومشاريع البنية الأساسية والخدمات الاجتماعية العامة، ومن المهم أيضاً إدراك العلاقة السببية القوية بين تفاقم المشكلات الأمنية والاجتماعية والسياسية وبين استمرار المشكلات الاقتصادية والمعيشية من ناحية، وعدم التقليل من خطورة الأزمة الاقتصادية بحجة توفر الثروة النفطية والتفاؤل بالمستقبل من ناحية أخرى كذلك فإن الدول النامية التي خضعت لبرامج التكيف الاقتصادي، تعاني من تدهور ملحوظ في شروط التبادل الدولية، مثل عجز ميزان المدفوعات، واستنزاف رصيد الاحتياطيات الدولية، وعجز في الحساب الجاري، وهبوط صافي الأصول الأجنبية إلى النقود، وأزمة ديون خارجية متفاقمة، وزيادة متسارعة في الفرق بين سعر الصرف الرسمي للعملة الوطنية وسعر صرف السوق السوداء، وتضخم الإنفاق العام وتردي في الكفاءات الإنتاجية للقطاع العام. كما أن هذه البرامج تفتقد للمرونة وفقاً لتوجهها العام وخطوطها الأساسية، وتتعامل مع جميع البلدان بالطريقة نفسها، كما أنها قصيرة المدى، بحيث لا تسمح بالقيام بعملية تكيف اقتصادي قابلة للاستمرار، ولا تسمح بإجراء تعديل أساسي على الجهاز الإنتاجي في البلد المعني والنمو الاقتصادي المحقق خلال فترة البرنامج. كذلك فإن الآثار الاجتماعية للبرامج ما زالت، في معظمها، سلبية خاصّة بالنسبة للطبقات الفقيرة، حيث أدت إلى ازدياد الفقراء فقراً واتساع انتشار الفقر، وزيادة الأغنياء غنى وتضييق حجم الطبقة الوسطى من المجتمع مع اتساع نطاقها، الأمر الذي يفرض على الدول النامية تبني خطط وبرامج تنمية اقتصادية اجتماعية وطنية تأخذ باعتبارها الظروف الموضوعية لكل بلد هذا من جهة ومن أخرى، تمثل التنمية المستدامة، فرصة جديدة لنوعيّة النمو الاقتصادي وكيفيّة توزيع منافعه على طبقات المجتمع كافة، وليس مجرّد عمليّة توسع اقتصادي، لا تمنع من ازدياد الفوارق بين مداخيل الأفراد والجماعات، إن بين دول الشمال والجنوب أو داخل الدول النامية نفسها. التنمية المستدامة تفرض نفسها كمفهوم عملي للمشاكل المتعدّدة التي تتحدّى البشرية. إنها تسمح بتقييم المخاطر ونشر الوعي وتوجيه العمل السياسي على المستويات المحلّية والإقليميّة والدولية" ونظرًا إلى الترابط القوي بين الأمن الإنساني والتنمية، ومن أجل جعل الحق بالتنمية البشرية حقيقة واقعة لكل البشر بصورة مستدامة آنيًا ومستقبليًا، تمنى رجل الاقتصاد الهندي أمارتيا صن على المؤسسات الدوليّة والمجلس الاقتصادي الاجتماعي اعتماد مؤشر جديد للتنمية، يأخذ في طياته حقوق الإنسان الاجتماعية والصحيّة والبيئيّة إضافةً إلى البعد الاقتصادي. وذلك من خلال القضاء على الفقر، تعزيز الديمقراطيّة، مكافحة المجاعات والأزمات والصراعات، التأكيد على فعالية المرأة، التغيير الاجتماعي، تشجيع الثقافة والدفاع عن حقوق الإنسان. وأيضًا من خلال تحسين سبل الحصول على الخدمات الاجتماعية والأغذية والرعاية الصحيّة الإنسانية والتعليم، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتمكين المرأة، وتسيير الحكم الرشيد، وتوسيع قدرة الحصول على تكنولوجيا المعلومات والاتصال، والعقاقير لمكافحة مرض الإيدز. كما يتضمن اعتماد التنمية المستدامة، عنصرًا جوهريًا في مخططات الدول والشركات، وخصوصًا في ما يتعلق بالقوانين الداخلية التي تنظم مشاريع الإستثمارات، بغية حماية البيئة ومنع التصحر، واتخاذ إجراءات لتأمين سبل الحصول على مياه الشرب المأمونة، وتحسين الصرف الصحي للمجتمعات القادمة. ومن أجل معالجة الفقر في العالم سوف يتطلب ذلك منح أكثر البلدان فقرًا، إعفاءً دائمًا من الديون وتحقيق تجارة عادلة من خلال وصول البلدان النامية إلى الأسواق. وبموجب نفاذ مفعول السياسات المُعولمة فإن انعدام العدالة الاجتماعية أضحى السمة الأساسية للرأسمالية الراهنة, حيث انتقلت من مرحلة عدم عدالة التوزيع وإعادة التوزيع إلى مرحلة اللا إنسانية في توزيع وإعادة توزيع الخيرات المادية؛ فعشرات الملايين في دول المركز المتقدم وليس فحسب في بلدان المحيط أضحت عاطلة عن العمل أو تم تقليص أجورها الأسمية, أو تخفيض دخولها الفعلية حيث أن الفقر الثلاثي الأبعاد وفقاً لتصنيفات الأممالمتحدة, وأنواعه المتمثلة في الفقر المطلق أو النسبي أو المُدقع باتت تطال مئات الملايين من كاسبي الأجور وشرائح واسعة من أصحاب الدخل المحدود والمتوسط من فئات الطبقات الوسطى. رغم الكثير الذي قيل ويُقال حول كفاءة الأسواق المالية وما تعنيه من الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية سواء لجهة القضاء على الهدر الاقتصادي وسريان مفعول التشغيل الكامل استناداً لنظريتي التوقعات العقلانية والرشيدة, فإن نظرية التوقعات الرشيدة أثبتت عدم قدرتها على التنبؤ بالأزمات والتحوط منها ومكافحتها؛ ويعود الخلل الرئيسي في افتراضاتها القائمة على أساس نموذج المنافسة الكاملة وحرية المعلومات والتوازن الاقتصادي. سيكون من قبيل الوهم الاعتقاد بأن عين الشمس بالإمكان حجبها بغربال فالوقائع العتيدة تخبرنا بأن التوازن الاقتصادي في كافة مراحل تطور الرأسمالية كان مؤقتاً وفي المدى القصير وحسب, أما الأصل فهو الاختلال وفي المدى الطويل, وذلك بفضل الأسواق الرأسمالية القائمة على الرأسمالية الاحتكارية _ سواء كانت منافسة احتكارية , أم احتكار قلة, أم احتكار كامل_ وهذا الأمر لم يعد ينفيه علماء الاقتصاد السياسي الرأسمالي حيث يقرون بأن الأسواق لم تعد تنافسية, ويذهب الكينزيون أبعد من ذلك نت خلال التأكيد على التوازن الاقتصادي الرأسمالي هو مؤقت وعابر وأن الاختلال هو الذي يحمل صفة الديمومة . هكذا فإن الأزمات الرأسمالية كما يعرضها ويحللها الكتاب هي بحق اقتصاديات الأزمات والكوارث والعلاج بالصدمات, حيث ينجم عن أزماتها المتلاحقة دماراً هائلاً لقوى الإنتاج أو ما يُطلق عليه شومبيتر بالتدمير "الخلاق" وكوندليزا رايس "بالفوضى الخلاقة", رغم أن قولها هذا جاء في سياق أخر هادف لتقسيم الدول العربية وإنهاك اقتصادياتها المُنهكة بالأصل. ومع أن الرأسمالية لا زالت قادرة على" تجديد نفسها" كما يقول فؤاد مرسي, إلا أن هذا التجديد يتم على حساب تدمير واسع للقوى الإنتاجية وتغييرات في مراكز ومكانة مالكي وسائل الإنتاج لصالح الرأسمالية الريعية _ الطفيلية وليس الإنتاجية منها_ أي فإن هذه العملية مؤسسة على تخصيص المنافع للأثرياء وتعميم الخسائر لمحدودي الدخل وإفقار مئات الملايين من البشر. إن ما سبق قوله لا يعني أن هذا الكتاب حكراً على المختصين في الفكر والنظريات الاقتصادية, بل أنه يتضمن أفكاراً انسانية تهم كل أنصار العدالة الاجتماعية والسوية بين الناس؛ وعليه فإن ما ورد في هذا الكتاب يبعث على الأمل مجدداً في انبعاث جيل شاب قادر على مواصلة الدرب وإثراء أفكار وبرامج من سبقوه في الدفاع عن الشعوب المضطهدة والفقيرة والمظلومة في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية, والذين يتحملون وزر وأعباء وأخطاء وخطايا الرأسمالية الليبرالية المستبدة , وتبقى المسألة الأهم وهي القدرة على إنجاز هذه الأفكار والرؤى والبرامج , حيث أنه لا يجوز الاكتفاء بتفسير ما يجري في العالم بل يتوجب تغييره نحو الأفضل؛ أي مواصلة العمل الدؤوب كي يتبنى الناس هذه الأفكار والبرامج, فالأفكار إذا تبنتها الجماهير تصبح قوة مادية لا تُقهر مهما بلغ جبروت وطغيان حيثان المال ومؤسساتهم المعولمة والتي تقوم بدور الوصاية والهيمنة والاستئثار بمقدرات شعوب المعمورة.