اشتدت المنافسة بين الإسلاميين وغيرهم على الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية فى مصر، ولا شك أن هذه المنافسة تفتح بابًا كبيرًا للنقاش الفكرى الإسلامى حول عدد من القضايا، ولكن ما لفت نظرى هو محاولة استمالة كل طرف لتلميع مرشحه بأنه الأقرب إلى الله من غيره، وهو كلام غير دقيق وغير مقبول، ومن المعايير التى رأيت البعض يضعها ويفاضل بها: أن معظم المرشحين طلبوا الترشح وهو مذموم شرعًا، والبعض لم يطلبها بل طلبته الإمارة، وهو ممدوح، وذلك استنادًا لنصوص وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نولى على هذا العمل أحد سأله، ولا أحدا حرص عليه" وفى رواية: "لا نستعمل على عملنا من أراده". ومنها: "يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها". وغيرها من النصوص. وقوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم). وأحب أن أوضح هذه القضية التى تشتجر فيها الأقلام، والألسن، والحملات الانتخابية، فأوضح النصوص التى وردت بالمنع، ثم أبين أدلتى على الموقف من التنافس على السلطة، وطلب السلطة والترشح لها. أما قوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم) فإنه هنا محمول على التزكية الدينية وحدها، كادعاء القرب من الله، وادعاء امتلاك الحقيقة الدينية، أو التألى على الله، بالحكم على النفس بأنها من أهل الإيمان، وأهل التقوى، كما قال اليهود والنصارى مزكين أنفسهم هذه التزكية الدينية، يقول تعالى: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) ومثل قوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى). أما توجه النبى صلى الله عليه وسلم فى مثل هذه الأحاديث التى منع منها تولى الإمارة من طلبها، فيقول الدكتور محمد عمارة: ربما كان ذلك تشريعًا خاصًا بمجتمع المدينة ودولتها، فرعيتها معروفة للرسول صلى الله عليه وسلم، وباستطاعته وكبار الصحابة أن يختاروا أكفأ العناصر للمناصب العامة، دون ترشيح. كما أن المجتمعات البسيطة والتى تتكون فى غالبها من فصيل عقدى واحد، وبيئة ومجتمع بسيط، يسهل عليها مثل هذه التصرفات، والأسلوب السياسى الإدارى بهذا الشكل. كما يوجد فى القرآن الكريم نصوص دلت على جواز ترشيح النفس فى أى عمل يبتغى به الإنسان صالح المجتمع، وخدمة دينه، فمن ذلك قوله تعالى بعد أن فسر نبى الله يوسف الرؤيا لملك مصر، ووضع لهم خطة اقتصادية تحميهم من مخاطر المجاعة المتوقعة، (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم) يوسف: 55،54. وقول تعالى عن نبى الله إبراهيم: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: إنى جاعلك للناس إمامًا، قال: ومن ذريتى؟ قال: لا ينال عهدى الظالمين) البقرة. وهناك نصوص من السنة والسيرة لا حصر لها كذلك تبين تنافس وترشيح الصحابة أنفسهم لمواضع المسؤولية، وإن كانت مسؤولية أخروية، ودعوية، فمن ذلك: عندما قال النبى صلى الله عليه وسلم عند استعداده لقتال بنى قريظة: لأعطين الراية غدًا رجلاً يحبه الله ورسوله، ثم يفتح الله على يديه، وقد اختلفت مواقف الصحابة تمنيًا لرفع اللواء، فى عدة روايات، فقد قال عمر بن الخطاب: فما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ وتطاولت إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على فدفع إليه اللواء. كما أن هناك سابقة تاريخية تدل على ذلك، فقد ذكر ابن كثير فى قصة انتخاب عثمان بن عفان رضى الله عنه: "أن القوم خلصوا من الناس فى بيت يتشاورون فى أمرهم، فكثر القول، وعلت الأصوات، وقال أبو طلحة: إنى كنت أظن أن تدافعوها، ولم أكن أظن أن تنافسوها ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم، مالهم فى ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى على، وفوض سعد ماله فى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان ابن عفان رضى الله عنه، فقال عبد الرحمن لعلى وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر، فنفوض الأمر إليه، والله عليه والإسلام، ليولين أفضل الرجلين الباقيين؟ فسكت الشيخان على وعثمان، فقال عبد الرحمن: إنى أترك حقى من ذلك والله على والإسلام أن أجتهد فأولى أولا كما بالحق فقالا: نعم. يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: فسكوت على وعثمان رضى الله عنهما دلالة ضمنية، ولكنها صريحة وواضحة على ترشيح نفسيهما لمنصب الخلافة. وهذا الترشيح منهما فى الحقيقة هو من قبيل الدلالة على ما ينفع المسلمين لما يحسّه كل منهما من نفسه من كفاءة وقدرة على خدمة المسلمين عن طريق تولى منصب الخلافة بانتخاب المسلمين له. أردت بهذه الوقفة أن يكف المروجون للمرشحين من إشهار سيف الدعاية الدينية، على المخالفين، أو بسط بركتهم بالتزكية لشخص دون آخر، فرجاء لا تضعوا الإسلام ونصوصه فى حرج فى المقابلة بين الأشخاص، فالإسلام أعلى وأرقى من ذلك، وهى منافسة نريدها شريفة، لا نلبس عباءة الدين لمرشح دون أحد، وكل ما يهمنا هنا: من يتحقق بترشحه: العدل، والمساواة، والحرية والكرامة الإنسانية للناس جميعًا. [email protected]