فى البيان الذى صدر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 25/3 الماضى، وقعت عيناى على جملة من روائع الكلم تقول: (إننا نطالب الجميع أن يعوا دروس التاريخ لتجنب تكرار أخطاء ماضٍ لا نريد له أن يعود)، والحقيقة أن الجملة على عمق معناها واتساع مدلولها تبقى جملة عامة تحمل نصحًا راشدًا لأى أحد فى كل وقت.. إذ من الذى يهمل (أبو العبر)، أو من الذى يريد لأخطاء مضت وانقضت أن تتكرر.. لا أحد بالطبع. لكن السياق الذى وردت فيه الجملة مع كونها من المجلس الأعلى يجعلنا نفهم بلا تأخر أن الجميع يقصد بهم (التيار الاسلامى العريض). و(التاريخ) هو العام 1954م من القرن المنصرم، و(الأخطاء) هى الصدام الشهير بين جماعة الإخوان المسلمين ومجلس قيادة حركة 1952م وعلى رأسه الرئيس عبد الناصر وهو (الماضى) الذى حمل حل الجماعة وإعدام ستة من كبار قادتها واعتقال وسجن كل من ينتمى إليها. قليلون هم من يلمون بتفاصيل أحداث 54 الشهيرة، وأقل منهم يعلم أنه كان بالإمكان تجنبها ومنعها باعتبارها من كبريات المآسى الوطنية والتاريخية فى القرن العشرين لا تقاربها فى المأساوية إلا (هزيمة كل يوم) يونيه 1967م.. حين أمر القائد العام للقوات المسلحة جنوده وضباطه بالانسحاب (الكيفى) من سيناء تاركينها للجيش الإسرائيلى.. أى ينسحب كل فرد (كيفما) يتراءى له.. لأن قدراته كقائد عسكرى فذ التى استحق بها ترقية استثنائية من (رائد إلى لواء)، لم تسعفه فى معرفة شىء عن الانسحاب (المنظم). ومن يريد للتاريخ أن ينطق عن ما حاق بمصر فى الستين عامًا الماضية عليه أن يبدأ من هنا.. من لحظة امتلاك الرئيس عبد الناصر وصديقه الحميم (عامر) لأهم مصدر من مصادر القوة فى كل الأوقات (الجيش).. وبتسليمه جيش مصر العظيم لعامر حسم صراعه مع الرئيس محمد نجيب والإخوان المسلمين وزملائه فى مجلس قيادة الثورة حسمًا تامًا لصالحه. وحين استفاق من سكرة (السلطان) كان بالكاد يتبقى له ثلاث سنوات من أجله المسمى الذى انتهى فى 1970م.. ليعود ترابًا إلى الأرض حتى يبعث إن شاء الله. لم أكن أتمنى لتلاميذ (عبد المنعم رياض) أن يستدعوا هذا المشهد المقيت (1954م).. لأننى على يقين أن كل الأطراف الآن لا تعرف شيئًا عن هذه الكارثة.. التى أخطأ فيها الجميع ولا أستثنى أحدًا. أخطأ فيها التلاميذ العظام للأستاذ البنا، حينما تجاهلوا اللائحة الداخلية لاختيار المرشد الجديد فى محاولة خاطئة لإطفاء (غل) التنافس بينهم على منصب المرشد العام.. وأحضروا قاضيًا لا يعرف الكثير عن مكونات الداخل الإخوانى المحتدم ولا يعرف الكثير عن (سياسة الأزمات).. وموهبته التى كونت خبراته فى الحياة كانت (إصدار الأحكام) إذ كان قاضيًا سابقًا. (غل) التنافس سيصحب المشهد الإخوانى من 1950م حتى العام 2011م، وستترتب عليه أشياء قد يتحير التاريخ كثيرًا فى كيفية كتابتها!. ولا يملك أهل الطريق إلا الدعاء بقوله تعالى: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل فى قلوبنا غلاً للذين آمنوا) وكل بشر فى النهاية خليط عجيب من القوة والضعف والصواب والخطأ والحقيقة والادعاء. لعل المسئولين فى التيار الإسلامى العريض حالت بينهم المسئوليات الكبيرة عن معرفة تفاصيل الفترة من 1950-1954م، ولعلى أتلمس له الأعذار أمام المسئوليات (المالية) و(التنظيمية) المهولة التى تحاصر بعضهم مع تتبع وملاحقة مسارات الأمور فى مسألة (الرئاسة)، والتى تعنى الكثير والكثير جدًا (للبعض).. ولكن من المهم بمكان الإلمام بتفاصيل هذه الفترة الأكثر تأثيرًا فى تاريخ مصر الحديث. أخطأ فيها أيضًا (أحفاد عرابى) حين سمحوا لعامر وناصر أن يستخدموا (أجهزة الدولة) وفى القلب منها الجيش العظيم لحسم صراع (نفسى وشخصى)، على هذه الدرجة من التعقيد.. حكى لى الأستاذ صالح أبو رقيق عن صراخ جمال عبد الناصر ذات مرة على سلم منزله فى 32 ش الخليفة المأمون_ منزل الأستاذ صالح_ قائلاً له: (إزاى تسيبوه يعاملنى كأنى خدام عند أبوه بهذه الطريقة)، قاصدًا الأستاذ الهضيبى، رحمه الله الذى كان يعامله بترفع شديد. الموضوع ملىء بتداخلات شديدة التعقيد والتركيب.. وكان من الممكن أن تتم قسمة تاريخية (سلطة وحكومة/ مجتمع ومسجد) حين اشتبكت الأمور وتداخلت.. وقد كانت المسافة بين الممكن والمستحيل مازالت كبيرة. لكن المشهد الذى تكون بسرعة من (السندى والهضيبى وعبد الناصر) جعل كرة اللهب تزداد اشتعالاً، فى الوقت نفسه كانت الأجهزة الغربية قد انتهت من تجهيز ضباط الجستابو الألمانى السابق للمساعدة فى فريق عمل يرسخ لدولة الانقلاب الجديدة فى مصر (مفتاح الشرق الأوسط) لتكوين جهاز أمن رئاسى وجهاز مخابرات فائق المهارة. ودخلت مصر كلها فى أتون (طغيان الفرد).. والقصة مليئة بالتفاصيل. المعرفة بالتاريخ هى ذلك الحوار مع أكبر الأدمغة البشرية فى القرون الماضية، كما قال ديكارت، ودروس التاريخ التى ذكرنا بها المجلس الأعلى شواهدها لا تنسى ولا تغيب.. لكن الناس غير الناس، والدنيا غير الدنيا.