ثورة 25 يناير سيكتب لها التاريخ أنها كانت ثورة شباب مصر.. فلولا الشباب ولولا شهداء الثورة من الشباب لما كانت الثورة ولما كان التغيير. ولا ينكر إلا عديم الضمير أن الثورة ضمت كل أطياف الشباب المصرى كباراً وصغاراً، متدينين وعلمانيين، مسلمين ومسيحيين: وما الجيش الذى ساند الثورة ومنحها قبلة الحياة، إلا خيرة شباب مصر ومن منا لم يكن فى شبابه جندياً أو ضابطاً فى هذا الجيش العظيم . المؤلم حقاً أن كثيرين من الذين يقفون أمام الكاميرات أو يمسكون الميكروفونات لم يكونوا جزءاً من هذه الثورة، وأظن أنهم لن يكونوا، فى يوم من الأيام لأنهم للأسف يعيشون فى ماضوية تجاوزها الزمن، تنكر أحلام الشباب المسفوكة دماؤهم، وتنكر مستقبلهم، وخبزهم، وفى الوقت نفسه تستثمر محبتهم لله وشهامة إيمانهم لتحقيق مكاسب حزبية أو طائفية ضيقة، لا تخدم مستقبل هؤلاء الشباب فى شىء ولكنها تخدم بالدرجة الأولى تصفية حساباتهم مع غيرهم أو أجنداتهم التى عانوا لأجلها المشقات، دون أن يراعوا أن الزمان قد تغير ولا يراعون أن الوالدين هم الذين يدخرون للبنين ويبنون مستقبلهم وليس البنون هم الذين ينبغى أن تحنى ظهورهم لكى يصعد عليها الآباء . المعنى العميق لإعطاء شباب الثورة حقهم، ليس بأن يعينوا وزراء أو أن ينتخبوا نوابًًا فى البرلمان أو أن يعين العمداء من طلبة البكالوريوس!! ولكن المعنى هو أن بناء المستقبل هو المكافأة الحقيقية لهذا الشباب.. فالشباب هو المستقبل. والسؤال الذى أتمنى أن يُطرح فوراً على كل حزب أو جماعة أو فصيل سياسى، أو مترشح للرئاسة، هو ما الذى قدمتموه من أجل بناء المستقبل خلال الأربعة عشر شهراً الفائتة، عمر الثورة؟ طبعاً هذا بخلاف الوعود الخلابة التى سبقكم إليها كل السابقين؟! للأسف الشديد، لا أجد، وربما لا يجد أيضًا كثير من شباب الثورة، إجابة واضحة لهذا السؤال، بل إن سير التطورات خلال العام الماضى لا يبعث على الارتياح. المسألة هنا لا تتعلق بإنجازات، فلا يمكن لعاقل أن يتوقع تصحيح أوضاع تراكمت على مدى عقود فى أشهر قليلة. كما أنها لا تتعلق بامتلاك هذا الطرف أو ذاك السلطة كى ينجز ما يتطلع إلى إنجازه، ولا يمكن أن تحل بتعليق المسئولية فى عدم الإنجاز على أطراف أخرى وتبادل الاتهامات. وإنما المسألة مسألة توجهات ورؤية ومسألة مقدمات وشواهد لا بد وأن تثير قلقاً لدى الكثيرين على المستقبل. لقد كشف الجميع عن رغبتهم فى تصفية الحسابات، وعن سباقهم المحموم إلى السلطة، من الآن، فماذا سيفعلون بعد أن يحوزوا السلطة التى يحلمون بها! وإذا كان شركاء الجهاد والسجون والتعذيب يقاتلون بعضهم بعضاً من الآن، ومن أجل اختلاف الرأى، فماذا سيفعلون حينما يتملكون؟ وبأى إيمان وبأى شعارات دينية يتغطون بعدما انكشف واضحاً للجميع ماذا يضمرون؟. لم نعد بحاجة إلى ثورة ثانية كما يلوح أو يهدد البعض على اختلاف توجهاتهم.. لم نعد بحاجة إلى أن نتقاتل ونتصايح فى الميادين ونعطل عجلة الإنتاج، لكننا بحاجة إلى ثورة عقول، ليس على المستوى الإعلامى المتحيز المتحزب ولكن على المستوى الفكرى والعقلى، لتغيير العقول، وخلق توجه جديد نحو المستقبل، لبناء الأخلاق، لصنع لغة جديدة للحوار والاختلاف تبنى ولا تهدم، عقول تبدع وتبتكر ولا يجرى سحقها تحت ثقل عقول تشبثت أنظارها بالماضى ولا تنظر للمستقبل ومضى زمانها.. نحن فى حاجة إلى ثورة عقول تسعى لتحقيق حلم كل شاب فى مسكن، وفرصة عمل، وأسرة جديدة، ومدرسة، ومستشفى، ومصنع، وشجرة، وأن يحيا فى مجتمع الحرية لا فى مجتمع القمع.. فهذه هى الحياة.. إن بناء العقول سيأتى بالكلمة العاقلة وليس بالحناجر المتعالية.. وحرية الكلمة يجب أن تكون متاحة للجميع ولا يجب مصادرتها أو تكميم الأفواه تحت أى مبرر، ولا يجب أن نخشى من الرأى المنتقد، ولا يجب مصادرته بالتمييز بين نقد بناء وآخر هدام، بل علينا أن نشجع الروح النقدية، وأن نترك للجمهور أن يحكم بنفسه ويميز بين النقد البناء والنقد الهدام.. ويتعين تيسير وسائل انتشار الكلمة والرأى، مستفيدين من وسائل التواصل العصرية الحديثة.. بهذا فقط سيكون فى مقدورنا أن نكتب فكراً عميقاً وقوياً يفرض احترامه على الجميع. ويجب أن ننأى بأنفسنا عن أساليب السب والتجريح التى تزيد من عمق المحنة ولا تداوى شيئاً. فلا يكفى مثلاً لمحاربة الفساد كشفه وتحويله إلى مادة فضائحية فى وسائل الإعلام، وإنما تحتاج أولاً إلى وضع فكر جديد وحلول جديدة وتقديم بدائل متجددة لكل ما هو فاسد. يحتاج إلى تأمل عميق فى الأسباب الكامنة خلفه والتى تشجعه وتعمل على استمراره والتى قد تكمن فى خلل تشريعى يتيح للموظف أن يطبق القوانين بمعايير متعددة وآليات متفاوتة من حيث التيسير والشدة . نعم.. بدأت الثورة ولم تكتمل.. وبدأت الثورة بالشباب وستكتمل بالشباب، لقد بدأت ثورة على الطغيان، وستكتمل بأن تصبح ثورة عقول حرة غير محكومة بطموحات حزبية، لكنها منطلقة انطلاقة عقلية حرة بلا حدود لبناء الإنسان والوطن، ثورة عقول لا تستعبدها قيود الماضى، بل تفك العقول من عقالها إلى آفاق المستقبل والحرية، ثورة تصنع المزرعة التى تفيض بالرزق، أما الجنة فحسابها عند الله العادل الذى لم يفوض له وكيلاً فى الأرض. إن الكلمة الصادقة الأمينة المحترمة هى وحدها القادرة أن تجفف أوراق التين وأوراق التوت معاً، وأن تجعل الملك يواجه حقيقة عريه - كما فى قصة تولستوي- من خلال مواجهة شجاعة مهذبة بلا إسفاف أو تجاوز أو تطاول.. ربما تستيقظ عقول استنفدت فرصتها، على صراخ عقول شابة واعدة تطالب بالحرية وحقها فى الحياة وتعلّى من كرامة الإنسان ومصلحة الوطن على المكاسب الحزبية والطائفية الضيقة التى لن تفيد إلا طالبى الزعامة الذين سيقدمون على أفعال أبشع مما فعله الآخرون. فانتكاسة المريض تكون دائما أقوى من المرض نفسه، وهزيمة الثورة والحرية لا بد أن تكون ثمرتها قمعاً وظلماً غير مسبوقين وبأدوات غير مسبوقة. إن ثورة العقول ليست تكتلاً سياسياً يستبدل استعباد الإنسان باسم الدين باستعباد آخر باسم العقل تحقيقاً لأجندات عقول مغايرة، لكنها ثورة العقل من أجل الحرية على جميع الأصعدة، ورفضاً للوصاية الحزبية والطائفية والدينية بكل أشكالها بعد أن تم توظيفها جميعا لصالح أجندات زعامية دون الحرية. وإذا لم يتحرك الشباب المسيحى لإنقاذ كنيستهم من توظيفها لأجندات الساعين للزعامة بالصدامات تارة وبالمقاصات تارة أخرى، فإن النتيجة ستكون وخيمة بلا شك. وعلى الجميع أن يدركوا أن أسلوب المواجهات والتوازنات الطائفية، كما كان يحلو للنظام السابق أن يسميها لن تفيد الكنيسة ولا المسيحيين بمكسب واحد، ولم يحدث أن أفادتها طوال العقود الخوالى. والأجدى بنا أن نتحول إلى حوار بناء بين المسلمين والمسيحيين على أرضية الوحدة والمساواة وليس خلفية طائفية. ولن يصل المسيحيون إلى هذه المساواة إلا إذا تحركوا، وتحرك شبابهم، لإصلاح شأنهم وإصلاح كنيستهم والاندماج بقوة من جديد فى المجتمع كتفاً بكتف مع بنى وطنهم من المسلمين. ولن يفيدهم تحصنهم داخل جدران الكنيسة وتسليم زمام أمورهم الدنيوية لقيادات دينية تتحدث باسمهم وتتفاوض نيابة عنهم. فوضع كهذا لا يمكن أن يؤسس لدولة مدنية تقوم على مبادئ المساواة والمواطنة، وإنما يكرس أوضاعاً طائفية شكلت خطراً كبيراً على الثورة وعلى المجتمع، وستكون نتيجته الحتمية مواطنة منقوصة وديمقراطية معوجة. لا نقول إن هذه المهمة سهلة وإنما نرى أنها نضال شاق وطويل ولكن ينبغى خوضه من أجل مستقبل أفضل لأجيال ستأتى بعدنا. والتاريخ على ما نقول شهيد.. الأنبا مكسيموس رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]