بوفاةِ علي أكبر هاشمي رفسنجاني، ثعلب السياسة الإيرانية، بدأ عصر جديد في السياسة الإيرانية، عصر سيفتح الباب للمتشددين لأن يكونوا أكثر قوة وللمرشد الأعلى علي خامنئي لينفرد أكثر بالسلطة. فلغياب رفسنجاني، الذي تولى منصب رئيس إيران في الفترة من 1989 إلى 1997، والذي يُعد رمزاً رئيسياً في الثورة الإسلامية التي اندلعت عام 1979، تداعياتٌ مُزَلزِلةٌ، ليس فقط بالنسبة للإصلاحيين الإيرانيين والمعتدلين، ولكن أيضاً بالنسبة لمستقبل البلاد السياسي القريب، حسب تقرير لموقع الديلي بيست الأميركي. خسارة لا تُعوّض حين توفي، كان رفسنجاني رئيساً ل"مجمع تشخيص مصلحة النظام"، وهو هيئة استشارية عليا للقائد الأعلى للثورة الإسلامية. والآن، خسر الأعضاء الإصلاحيون في المجلس مصدر حمايةٍ قوياً لهم. لكن، يعد هذا التأثير هو الأخف وطأة ضمن جملة التداعيات الحتمية المترتبة على رحيل رفسنجاني. على مدار العشر سنوات الماضية، كان رفسنجاني، بين المراتب السياسية العليا في السلطة، يُمثّل درع حمايةٍ رئيسية للإصلاحيين الإيرانيين، وغيرهم من الفصائل السياسية المشابهة والتي باتت حالياً بلا أي سلطة. أسهمت جرأته في مواجهة المتشددين وحتى القائد الأعلى آية الله علي خامنئي نفسه، عبر استغلاله المحنّك لوسائل الإعلام لتحقيق غرضه، في خلق توازنٍ في السياسة الإيرانية بين المعتدلين والمتشددين "الأصوليين" الموالين بشكلٍ كبير لخامنئي. وستخلق خسارة رفسنجاني الآن فراغاً سياسياً، تضطرب معه موازين القوى بين المتشددين والجماعات الأكثر اعتدالاً في الجمهورية الإسلامية. أما صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، فقد اعتبرت في تقرير لها أنه بوفاة رفسنجاني، الأحد 8 يناير، أدركت الأحزاب السياسية الإيرانية فوراً أنَّ المساحة المُتاحة لدى الإصلاحيين للمناورة قد تناقصت بشكل كبير. وبوفاته، فإن ما يُعرف ب"خط الإمام"، وهم مجموعة من الرموز السياسية البارزة التي تعود لفترة بداية الثورة الإسلامية وكانوا قريبين من الخُميني، اقترب من نهايته، حسب تقرير الديلي بيست. ولكن، لم يأتِ غياب هذا الرجل المخضرم، الذي كان أحد تلامذة مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخوميني، في صالح أولئك الذين يسعون لجعل إيران بلداً أقل ثورية وأكثر تسامحاً وأكثر تواصلاً مع الغرب، خصوصاً الولاياتالمتحدة، حسب النيويورك تايمز. تصف الصحيفة رفسنجاني، الرئيس الأسبق الذي أسهم في تأسيس الجمهورية الإسلامية، بأنه كان أكبر بكثير من أن يُهمِّشه المتشددون المحافظون. أما الآن، فقد مات فجأةً، إثر ما وصفته وسائل الإعلام بأنه أزمة قلبية، وما مِن شخصٍ ذي نفوذٍ كافٍ يمكن أن يحل محله. الخاسر الأكبر ستكون الحكومة الإصلاحية للرئيس حسن روحاني أول من يعاني تداعيات اختلال موازين القوى، حسب الديلي بيست. فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية في وقتٍ لاحقٍ من عام 2016، يحتاج روحاني إلى دعمٍ سياسي لإعادة انتخابه في ظل فترةٍ تشبه الأيام العصيبة التي تلت توقيع الاتفاق النووي، والذي شجبه السياسيون المُتشددون. لكن مع رحيل رفسنجاني، ما مِن قامةٍ سياسيةٍ إصلاحية تحل محله، وسيجد روحاني نفسه مجبَراً على مواجهة حشود المتشددين والأصوليين وحده. تؤثر وفاة رفسنجاني أيضاً على الانتخابات القادمة لمجلس مدينة طهران؛ إذ تعلّق الدائرة المقربة من رفسنجاني، وخاصة ابنه محسن هاشمي، آمالاً كبرى على هذه الانتخابات، حيث يتطلع محسن هاشمي إلى تولي منصب محافظ طهران. لكن في ظل غياب الأب، تتضاءل حظوظ عشيرة رفسنجاني الآن، فهم ليسوا مثل عشيرة الخُميني، الذين ظلوا محافظين على مكانتهم البارزة في السياسة والدين، معتمدين على اسمه ومنزلته الرفيعة. نهاية أحلام الإصلاحيين فوق كل هذا، فإن رحيل رفسنجاني يمثل موت أحلام العديد من الإصلاحيين، مثل تعديل الدستور لتحويل القيادة العليا من منصبٍ يديره شخصٌ واحدٌ فقط ليصبح مجلساً، أو زيادة الدور الرقابي لمجلس خبراء القيادة على المرشد العام للثورة الإسلامية. تعود هذه الأحلام إلى زمن الخُوميني. لكن الآن، فات أوان أن تتحول أيٌ منها إلى واقع كان رفسنجاني يمثِّل أيضاً مركز ثقلٍ جَذَبَ مجموعةً من السياسيين، الذين لم يساعدوا الإصلاحيين فحسب؛ بل نجحوا كذلك في إقناع بعض الأصوليين، مثل علي أكبر ناطق نوري، وعلي أكبر ولايتي، والمتحدث باسم البرلمان علي لاريجاني، بدعم حكومة روحاني. أما بعد رحيل رفسنجاني، فستتضاءل فرص إبرام مزيدٍ من التحالفات بين الإصلاحيين والأصوليين. الوسيط لم ينجح رفسنجاني، طوال الوقت، في القيام بدورِ الوسيط المُفاوِض بين الخصوم السياسيين، فلم يستطع، على سبيل المثال، حماية المرشحين الإصلاحيين ومنع حرمانهم من حقوقهم السياسية. لكن دوره في إرشاد السياسيين الإصلاحيين كان حيوياً، وعند مرحلةٍ معينة بات رفسنجاني قادراً على التأثير في سلطة خامنئي عبر منعه من اتخاذ قراراتٍ من جانبٍ واحد. لكن الآن، أصبح أمام المتشددين فرصة لتطويق المرشد العام بالكامل، وسد الطريق أمام نفوذ المعتدلين. كان رفسنجاني يمارس السياسة بالطريقة نفسها التي كانت تجري بها الأمور في زمن آية الله الخُوميني، أو على الأقل، كان هذا ما يرغب في إقناع الناس به. برحيل رفسنجاني، ينضب أيضاً منبعٌ رئيسيٌ للمعارضة ضد العديد من المتشددين المحافظين في السياسة الإيرانية والمرتبطين غالباً بخامنئي. ويشمل هؤلاء المتشددون؛ الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، ورئيس السلطة القضائية محمد يزدي، والزعيم الروحي للمتشددين الإيرانيين محمد تقي مصباح يزدي، والمرشد العام نفسه. فجأة، شعر الإصلاحيون والمعتدلون الإيرانيون، الذين طالما تعرضوا للتهميش، والذين كانوا يستغلون دعوات رفسنجاني المعتادة للمزيد من الحريات الشخصيات، ومطالباته بإرساء علاقاتٍ أفضل مع الولاياتالمتحدة من أجل دعم أجندتهم السياسية، بالوهنِ والضعف دون سندٍ يرتكزون إليه، وفق النيويورك تايمز. مَن سيحذّر الآن، علناً، من "الفاشية الإسلامية"، كما فعل رفسنجاني عندما سعى المتشددون للتأثير على الانتخابات؟ من سيقول علناً إنه ينبغي تقديم تنازل نووي؟ حسب تعبير الصحيفة. صديق خامنئي ومنافسه كان بإمكان رفسنجاني أن يتحدث بحريةٍ أكثر من الآخرين، ليس فقط بسبب مؤهلاته الثورية، لكن أيضاً بسبب صداقته مع آية الله علي خامنئي، الذي دفع به ليصبح المرشد الأعلى للثورة الإيرانية عام 1989. لم يكن آية الله خامنئي، الذي تلاعب بمهارة بكل الأحزاب الإيرانية، حسب تعبير النيويورك تايمز، ليذهب أبداً إلى حد العزل الكامل لرفسنجاني، حتى عندما دعّم الأخير المظاهرات التي تلت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها عام 2009. فبينما وُضِعَ المرشحان الرئاسيان، مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، قيد الإقامة الجبرية عام 2011 لانتقاداتهما، فقد جُرِّدَ رفسنجاني من عددٍ من الصلاحيات، لكن لم يُتخلص منه قط. في البيان الذي أصدره لنعي رفسنجاني، بدا واضحاً للكثيرين أنَّه كان ينظر لرفسنجاني ليس كصديقٍ فحسب، وإنما أيضاً باعتباره منافساً، قد يجعل غيابه من دوره كمرشد أعلى أكثر نفوذاً حتى مما هو عليه الآن. وجاء في البيان الذي نُشِرَ على موقع آية الله خامنئي: "إنَّ فقدان رفيق وحليف، تعود صداقته به ل59 عاماً مضت، لهو أمر صعب ومحزن". وأشار خامنئي أيضاً، بشكلٍ غير مباشر، إلى الخلافات التي نشبت بينهما؛ إذ جاء في البيان: "إنَّ الخلاف في وجهات النظر وتفسير الشريعة الإسلامية في العديد من النقاط، طوال كل تلك السنوات، لم يقطع هذه الصداقة قط. لا أستطيع التفكير في أي شخص، بعد رفسنجاني، يمكن أن أشارك معه مثل هذا التاريخ الطويل وخبرات اللحظات التاريخية السعيدة والحزينة". شارك المتشددون في الحداد، فأصدروا بيانات تعازٍ عامة، لكن مع إدراك أنَّ الرياح السياسية في إيران سوف تتجه الآن لصالحهم، أكثر حتى مما كانت عليه سابقاً. بالنسبة لهم، كان رفسنجاني شخصاً بإمكانه أن يستخرج أحكاماً، من مؤسِّسِ الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني، تعارض جمودهم في الانعزال ومعاداة الغرب، حسب تعبير الصحيفة. فقد اعتبروا أن رفسنجاني كان خطراً تحديداً؛ بسبب قناعته بأنَّ إيران قد تغيرت، وأنَّ إقامة علاقات مع الولاياتالمتحدة كان السبيل الوحيد لتأمين مستقبل الجمهورية الإسلامية. خاتمي أم روحاني؟ من يصبح بديل رفسنجاني؟ الرئيس الحالي حسن روحاني أم الرئيس الأسبق محمد خاتمي الذي فاز بانتخابات الرئاسة التي جرت عام 1997 بعد أن حظي بدعم رفسنجاني، وقاد إيران إلى فترةٍ من المساحاتِ الأوسع من الحريات الشخصية والتواصل مع الغرب، قبل أن توقفه مراكز القوى المتشددة غير المنتخبة؟ تنقل النيويورك تايمز عن الناشط والسياسي الإصلاحي السابق محمد رضا شمس الواعظين: "لقد صار على خاتمي أن يتحمل أعباء مسؤوليات آية الله رفسنجاني". لكنَّ خاتمي مشلول سياسياً، فالجهاز القضائي الذي يسيطر عليه المتشددون قد أمر كل وسائل الإعلام الإيرانية بألا يعرضوا صورته أو حتى يقتبسوا من موقعه. وباستثناء الظهور في بعض المسرحيات، والتجمعات الدينية، والمعارض الفنية، ظلَّ خاتمي صامتاً تماماً. في المقابل، فإن وفاة رفسنجاني تمثِّل فرصةً لروحاني؛ إذ يستطيع الرئيس الآن الخروج من كنف رفسنجاني والسعي إلى ملء الفراغ الذي تركه بعد وفاته، حسب الديلي بيست. فقد علَّقَ رفسنجاني آمالاً كبرى على روحاني، ويُعد الرئيس الحالي أقوى تلامذة رفسنجاني في السياسة الإيرانية. لكن، يتوجب على روحاني الآن اجتياز اختبار محاربة المتشددين خلال انتخابات الرئاسة القادمة، أولئك المتشددين الذين صاروا أكثر جرأةً وأعلى صوتاً بعد رحيل مُرشده الفكري. وما زال لدى الرئيس الإيراني القليل من الحلفاء الآخرين، ولكنهم مقيَّدون ومعزولون مثل الرئيس خاتمي ، الذي أُجبر على ترك العمل السياسي وأصبح ذكر اسمه في وسائل الإعلام غير قانوني، بالإضافة إلى الزعيمين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي، اللذين ما زالا قيد الإقامة الجبرية في منزلهما منذ الاحتجاجات التي اندلعت ضد الانتخابات الرئاسية في عام 2009. وترى الديلي بيست أنه يقع على روحاني مسؤولية الاضطلاع بدور "الأب الروحي" الجديد للإصلاحيين والمعتدلين. وتعد هذه المهمة أصعب من مهمة الفوز في الانتخابات أو حتى الدفاع عن الاتفاق النووي؛ إذ يتوجب على روحاني، ليس فقط حماية الإرث السياسي لرفسنجاني؛ بل أيضاً منع انهيار تحالفه الذي لن يتمكن من دونه أي سياسيٍ معتدل من التأثير في الرأي العام أو إبرام صفقاتٍ سياسيةٍ جديدةٍ. لم يظهر خلال الفترة الرئاسية الأولى لروحاني أي نجاح لافت في هذا الشأن. وربما كان السبب أنه كان ما زال يعمل في كنفِ رفسنجاني. لكن، ما يمكن تأكيده هو أنه بموت رفسنجاني، دخلت السياسة الإيرانية عصراً جديداً.