تمثل وفاة «البابا شنودة الثالث» نقطة تحول أساسيَّة فى تاريخ الكنيسة القبطية؛ بوضوح لأن هذه الوفاة تكاد تكون قد أنهت عهدًا من عهودها فى مصر، وهو عهد وقعت فيه تحولات رئيسية ليس فقط فى شكل ووظيفة الكنيسة، بل تحولات طالت مصر والمنطقة والعالم بأكمله. نقول عهدًا لأن «البابا» جلس على كرسى البابوية منذ العام 1971 أى منذ نحو أربعة عقود، وهى فترة طويلة مقارنة بسلفه مثلا الذى لم يستمر فى المنصب سوى ربع هذه المدة تقريبًا. والواقع أن جلوسه على هذا الكرسى كان بمنزلة قطيعة مع دور الكنيسة التقليدى بالنسبة للأقباط، فمن دورٍ كان يقتصرعلى تلبية الحاجات الروحية لهم، حوَّل «البابا شنودة» الكنيسة لمؤسسة اجتماعية واقتصادية وسياسيَّة تبسط رعايتها عليهم. ومن مؤشرات هذا التحول فى دور الكنيسة نشاط ما يسمى ب "التنظيمات الشبابية القبطية" وتزايد أعدادها، وتنامى الأدوار التعليمية والاجتماعية والترفيهية للكنيسة، وفى بعض الأحيان تعمُّد تخطِّى أصحاب القرار فى الكنيسة لأجهزة الدولة المختلفة كالقضاء والشرطة فى عددٍ من القضايا، ومخاطبة رئيس الدولة مباشرةً. شهدت الكنيسة القبطية إذًا توسُّعًا وتمددًا غير مسبوقين فى عهد «البابا شنودة». لقد أهَّل هذا النفوذ المتنامى الكنيسة للتحالف مع النظام السابق، وكان من مؤشرات هذا التحالف بين «الكنيسة» و«نظام مبارك»، الانخراط بالفعل فى مفاوضات حول دعم الكنيسة لمشروع «التوريث»؛ باعتبار أن أتباع الكنيسة قد يشكلون جزءًا من ظهير جماهيرى للمشروع، وكان من نتيجة هذه المفاوضات ما قاله «البابا شنودة» فى يوليو 2009 من أن "غالبية الشعب المصرى يحبون جمال مبارك ويفضلونه على غيره إن وجد لرئاسة الدولة، خاصة أننا لا نجد من يرشح نفسه أمامه". بل إن التوسُّع والتمدُّد فى نفوذ الكنيسة القبطية دفع بها إلى رفض مد سيطرة الدولة عليها، ففى مايو 2010 رفض البابا ما قضت به المحكمة الإدارية العليا بإلزام الكنيسة بعقد الزواج للمطلق قائلًا: "لا يلزمنا أحد إلا بتعاليم الإنجيل فقط". باختصار تحول «البابا شنودة الثالث» إلى رجل سياسة بلا جدال، تعامل مع الدولة بصفته ممثل الأقباط، عَارَض الدولة بنفس الصفة، وتحدث وصرَّح بنفس الصفة كذلك؛ وبالتالى فقدت الكنيسة وأتباعها من الأقباط قائدًا سياسيًّا بأكثر مما فقدوا زعيمًا روحيًّا، أو مسئولاً عن مؤسسة دينية. والحقيقة أن المؤسسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الضخمة التى شيَّدَها «البابا شنودة»، صارت على المحك بعد الثورة، وزاد من صعوب هذا المحك وفاته. فالثورة أتت بما لم يكن يريده لا «البابا» ولا الكنيسة ولا أتباعها، وهو سقوط نظام مبارك الذى رآه قطاعًا من الأقباط سدًّا منيعًا أمام القوى الإسلاميَّة ذات الشعبية الواسعة. أما وفاته فهى بلا شك ستحدث تحوُّلاً أساسيًّا فى سياسات «البابا» المنتظر بغض النظر عمن سيكون، ومن ثم سياسات كنيسته. ويمكن رصد بعض الملاحظات الأساسيَّة فى هذا المجال: الملاحظة الأولى، هى أن تمدد وتوسع نفوذ الكنيسة فى عهد «شنودة» ارتبط ارتباطًا أساسيًّا بانكماش وتراجع نفوذ ودور الدولة. وهو الفرق الأساسى والمحورى بين «البابا 117» و«البابا 118» القادم. ففى حين اختبر «البابا شنودة» أجهزة الدولة فى مصر وهى فى حالة تراجع بفعل الاستبداد السياسى والفساد الاقتصادى، فإن «البابا» الجديد أيًّا كان، من المفترض أن يختبر أجهزة الدولة وهى تستعيد بعضًا مما فقدته. أما الثانية فهى أن من سيجلس على كرسى البابوية من المنتظر أن يتولى لأول مرة فى تاريخ مصر أمام مجلس شعب ورئيس دولة منتخبين انتخابًا حُرًّا مباشرًا، أى سلطاتٍ تشريعية وتنفيذية منتخبة وتمتلك شرعية قوية، ستحد من حرية الحركة التى تمتعت الكنيسة بها فى ظل النظام السابق. والثالثة أن تولى شخص بذات المهارة السياسية والإدارية لمنصب البابا أمر غير مؤكد؛ فالمعلوم فى هذا الصدد أن البابا كان شخصية كاريزمية احتوت وعزلت أى تحدٍ لسلطته، وبالتالى فمن المستبعد أن نجد أمامنا كاريزما على نفس مستوى «شنودة الثالث». فى كل الأحوال تواجه الكنيسة القبطية تحديًا فريدًا سواء بوفاة «البابا» ومن قبل باندلاع الثورة. والرَّاجح أن العقل السياسى للكنيسة بدأ يدرك تحولات الحياة السياسية والاجتماعية فى مصر.