يظهر القضاء اليوم وكأنه في موقف المدافع عن مصداقيته، خاصة بعد النهاية -المؤقتة - التي آلت إليها قضية المنظمات غير الحكوميَّة؛ فلا شك في أن مشهد سفر المتهمين الأمريكيين تسبب في إحراج القضاء، بعد أن أحرج كل من المجلس العسكري و الحكومة، و حتى جماعة الإخوان المسلمين التي لم تتقلد أيّ منصبٍ تنفيذي حتى الآن. ويتبدَّى موقف الدفاع الذي نتحدَّث عنه هنا في عدة مواقف صدرت مؤخرًا من بعض القضاة، واستهدفت كلها الرد على الاتهامات والنقد اللذين تعرَّضوا لهما بعد رفع حظر السفر عن المتهمين الأمريكيين في قضية المنظمات. تجلَّت آخر هذه المواقف في البلاغات التي تقدَّم بها رئيس المحكمة الصادر عنها قرار السماح بالسفر، المستشار مجدي عبد الباري ضد كل من الإعلامي وائل الإبراشي, والصحفي أحمد سعيد بجريدة الواقع, وجريدة الوطن المصرية. وهو تحرُّك بدا نادرًا؛ حيث يلجأ قاضي إلى النيابة بسبب ما تعرَّض له من "تشويه و سب وقذف". وأيضًا مطالبة الأمين العام لمجلس القضاء الأعلى المستشار محمد عيد سالم الجميع بعدم إلقاء الاتهامات جزافًا, خاصة بعد أن أكَّدَ إجراء المجلس لتحقيقاتٍ في واقعة رفع الحظر, وتعهدَّ بأن المجلس سوف يتخذ كل الإجراءات القانونية حيال كل من يثبت تورطه في الواقعة. هذا الموقف الدفاعيّ غير المعهود من بعض دوائر القضاء سببه الهجوم النادر عليها في الفترة الأخيرة؛ فعلى الرغم من اعتبار قطاع كبير من المصريين للقضاء كإحدى مؤسسات الدولة القليلة التي لم يضرب الفساد أطنابه فيها، إلا أن تطورات قضية التمويل أطلقت موجة من النقد اللاذع للقضاء من قبل بعض السياسيين والإعلاميين. أحد الكتاب في جريدة حزبية وصف رئيس محكمة استئناف القاهرة بأنه "قاضي تشطيبات جاهزة"، وآخر رسمًا كاريكاتريًّا يتهكم فيه على دعوة القضاء للاستقلال، حيث جعل شخصيته الكرتونية تتساءل:"هما قصدوا إنهم يستقلوا عنا عشان يكونوا تبع الأمريكان واللا إيه؟". السياسيون كان لهم نصيب في توجيه سهام النقض إلى القضاء كذلك، حيث اعتبر عضو مجلس الشعب والقيادي البارز في حزب الحرية والعدالة محمد البلتاجي، أن سفر المتهمين فى قضية التمويل الأجنبي أثناء التحقيق معهم ينذر بأن القضاء المصري على المحك وأن قراراته مازالت مسيسة كما كان يحدث في النظام السابق. أثبتت التطورات التي تلت قضية التمويل إذًا أن الصورة الذهنية التي لطالما احتفظ القضاة بها لدى قطاعٍ من المصريين خاصة بالمقارنة بمؤسسات أخرى للدولة، عرضة للتغيير والتحول. إلا أن النظر المتأني في مسألة القضاء يوصلنا إلى أن تغير الصورة الذهنية ليس سببه فقط المشهد الختامي لقضية المنظمات، بل إن عدة عوامل خصم تتضافرها، من اللوحة الملحمية للقضاء في وعي المصريين. وللمفارقة فإن التأريخ لأثر هذه العوامل يبدأ بعد الإطاحة بمبارك. فعلى عكس ما كان متوقعًا، فبدلاً من أن الثورة تمثل فرصة لتحقيق المطالب القديمة للقضاة في الاستقلال، والتخلُّص من وطأة السلطة التنفيذية. أتت بتحديات واختباراتٍ لهم ونظامهم القضائي. حتى الآن حملت الثورة للقضاء في مصر التحديات بأكثر مما حملت من فرص. وليس أول هذه التحديات العجز الإداريّ الواضح عن ملاقاة حاجات المواطنين في استرداد حقوقهم، وظهر ذلك واضحًا في القضايا المتعلقة بمحاكمة الرموز الأمنية والسياسية للنظام السابق والتزام القضاة بالأداء البيرقراطيّ التقليدي في قضايا ذات أبعاد سياسية صرفة. وكذلك ما تبدَّى من قدرة أجهز الدولة التنفيذية على ممارسة ضغوط على القضاء، أو حتى إعاقته بالامتناع عن توفير ما يلزمه لتسيير القضايا المعروضة أمامه على النحو الأمثل، وظهر هذا في مسألة التحقيقات غير المكتملة التي قدمت من النيابة، وما ظهر كذلك بشكلٍ أو بآخر في قضية التمويل الأخيرة. والواقع أن هذا يمثل الميراث الطويل من محاولات الرؤساء السابقين اختراق المؤسسة القضائية والتدخل في سير أعمالها. ومن هذه التحديات كذلك المنافسات القويَّة في قلب السلطة القضائية نفسها - وهي ليست جديدة - ومن المرجح أنها ستستمر، فقد ظهرت أصوات من داخل أروقة القضاء تطالب بالتطهير ممن تعاونوا مع السلطات التنفيذية في النظام السابق، وقد أعلن رئيس محكمة النقض، المستشار محمد حسام الدين الغريانى بالفعل أن "القضاء يباشر حاليًا عملية التطهير الذاتى فى سرية كاملة". ولعلنا نستطيع قراءة تصريحات رئيس نادى قضاة المستشار أحمد الزند، في هذا الصدد، والتي طالب فيها كل يطالب بتطهير القضاء أن يطهر نفسه و نفى أن يكون من أتباع الحزب الوطنى المنحل، أو يكون النظام السابق من أتى به إلى رئاسة نادى القضاة النظام السابق. إلا دليلًا على وجود توتُّرَات داخل الجسم القضائي. على أية حال فإن استقلال القضاة - نظر البعض - صار استقلالًا مشروطًا بتقديم ضمانات نزاهة لأداء النظام القضائيّ، خاصة بعد التطورات الأخيرة التي استدعت من البعض صبَّ جام غضبه على القضاء، واستنفرت في المقابل بعض القضاة للدفاع عن أنفسهم.