تبخرت تصريحات وتهديدات وزير التعليم بإغلاق مراكز الدروس الخصوصية.. واستمر الحال على ما هو عليه: مدارس تنفق عليها أموال الشعب- الذي تثقله سياسة الجباية ويصرخ من انفلات الأسعار- لا يعترف بها الطلاب وأولياء أمورهم وهي بالتالي خاوية على عروشها، ومراكز تعليمية أغلبها لا يصلح للتعليم ولكنها مكتظة بالطلاب، ويضيع وقت الطالب المسكين في التنقل بينها. وهذه المراكز كلها لا تعلم الطلاب شيئا ولا تدربهم على شيء إلا فن الإجابة على أسئلة الامتحانات.. التي تصر الوزارة على جعلها دوما في مستوى الطالب المتوسط!. وبالطبع فإن العبث الاقتصادي الذي أدى إلى إفقار المواطن بسبب الزيادات الرهيبة في الأسعار يدعو الناس إلى التخلص من أعباء الدروس الخصوصية وإعادة أولادهم إلى المدارس المهجورة توفيرا للنفقات، ولكن الوزارة الفاشلة لم تنجح في إعادة المعلم إلى عمله؛ فكيف يعود الطلاب إلى مدارس وهمية خربة؟!. لا شك أن إصلاح أي قطاع من قطاعات الدولة لا يمكن أن يتم قبل إصلاح التعليم.. فالتعليم الجيد هو الأساس لتكوين المواطن الصالح لأي عمل آخر. وكان المفروض أن يكون التعليم هو أكثر الميادين حصانة ضد الفساد لأنه يتعلق بمستقبل الوطن، إذ لا يمكن أن تنهض أمة في ظل تعليم فاسد. ويدرك الناس في العالم كله أن التعليم ليس مجرد امتحان للحصول على رخصة للعمل، ولا هو مجرد تلقين للمعارف والمعلومات.. ولكنه عملية تربوية متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان الصالح الواعي الذي يمتلك من المعارف والمهارات ما يمكِّنه من خدمة نفسه ووطنه. ومرحلة التعليم في حياة الإنسان هي مرحلة تكوين الشخصية واستكشاف المواهب واكتساب المعرفة وتنمية المهارات والسلوكيات.. والشرط الأساسي لتحقيق ذلك هو توافر الشفافية والمساواة والقدوة الصالحة، وإذا لم يتوافر ذلك في تلك المرحلة الدقيقة من حياة الإنسان فلا أمل في التعليم، لأنه يصبح أداة هدم لشخصية الإنسان وسلوكياته. ونعتقد أن الجرائم الكثيرة التي اقترفها النظام المخلوع لا تساوي شيئا أمام جريمة إفساد التعليم، إذ حدث تغيُّر خطير في مفهوم التعليم نفسه؛ وصار الهدف منه هو مجرد عبور الامتحان بأية وسيلة والحصول على الشهادة- الرخصة، سواء تعلَّم الطالب أو لم يتعلم. لقد انهارت القيم الأصيلة التي كانت تميز المدارس والجامعات المصرية.. وهذا الانهيار والانحدار كانت له مقدمات كثيرة، لم تؤخذ مأخذ الجد في حينها، وتسبب الفساد المستشري في إغماض العين عنها مما أدى إلى اتساع الخرق على الراقع.. لنصل إلى حالة حرجة لم يعد يجدي معها سوى أسلوب الجراحة والاستئصال. وأخطر ما في الأمر أن المجتمع المصري بات يتقبَّلُ حوادث الفساد في التعليم، ولا تهتز له شعرة أمام هذا الزلزال المدمر الذي ضرب مصر في قلبها.. إذ يظن الكثيرون الآن للأسف أن مساعدة الطالب في الامتحان- سواء بالغش أو بشراء الأسئلة أو بالإرهاب الإعلامي لوضع امتحانات سهلة!- هدف مشروع وحق مكتسب، وأصبح التدخل غير المعقول في امتحانات الثانوية العامة من قبل أولياء الأمور ووسائل الإعلام شيئا عاديا لا يثير الاشمئزاز ولا حتى الاحتجاج من أية جهة، وكأن المطلوب من وزارة التربية والتعليم هو منح (الدرجة النهائية) لجميع الطلاب في جميع المواد أيا كان مستواهم أو درجة تحصيلهم!. والسؤال الخطير الذي يطرح نفسه الآن: لماذا تغير المجتمع المصري وصار هدف أولياء الأمور (تساندهم- بقوة- وسائل الإعلام للأسف) هو مجرد عبور أولادهم للامتحان "بتفوق" بصرف النظر عن مستواهم التعليمي؟.. لقد تربينا في هذا الوطن نفسه على قيم أصيلة أساسها أن "الغش حرام"، ولم نكن نشهد في الماضي القريب هذا الاهتمام الفائق بالامتحانات "فقط" دون أدنى اهتمام بالعملية التعليمية ذاتها. لم نكن نشهد هذا التكالب على لجان الامتحانات لمحاولة مساعدة الأولاد بالغش أو بشراء الأسئلة.. كانت حوادث الغش ومساعدة أولاد بعض قيادات التعليم المحليين نادرة وممقوتة ومستهجنة، وكان الطالب الذي يحظى بالمساعدة أو الغش يشعر بالخزي والعار أمام زملائه. كان هناك شعور وفهم عام بأن الغش لن يفيد؛ لأن الطالب الغشاش الذي لم يتعلم جيدا لن يستطيع المواصلة بالمراحل التالية.. وكان أولياء الأمور يتفهمون ذلك ويريحون أنفسهم من عناء اللهث وراء الامتحانات ولجانها، وكانوا بالتالي يهتمون بالعملية التعليمية نفسها، ونشأت فصول (التقوية) لمساعدة الطلاب ضعاف التحصيل، وظهرت الدروس الخصوصية المحدودة من أجلهم لأنه لا حل سوى التعلُّم الحقيقي ورفع مستوى الطالب. وكانت قصص القِلة القليلة من الطلاب الذين حصلوا- بنفوذ آبائهم- على "الدرجات العلا" في الثانوية العامة ثم فشلوا في مواصلة تعليمهم بكليات الطب وغيرها دائما حاضرة. فما السبب في هذا الانقلاب الخطير في مفهوم التعليم؟، وهل هناك حل لهذه المعضلة التي تهدد مستقبل الوطن؟. لا شك أن انتقال الفساد التعليمي إلى الجامعات أيضا هو الذي يشجع أولياء الأمور على محاولة مساعدة أولادهم بالغش لعبور امتحان الثانوية العامة.. فالطالب الغشاش بالثانوي يمكن أن يكون غشاشا بالجامعة، ليتخرج ويحمل شهادة تؤهله "بجهله" لقتل المرضى الذين يوقعهم حظهم العاثر في عيادته، أو تدمير المنشآت التي يصممها أو يشرف على بنائها، أو تسميم الناس بالمياه الملوثة ...الخ. وأصحاب النفوذ والمال الذين يستطيعون شراء الامتحانات بالثانوي هم الذين يستطيعون فعل الشيء نفسه بالجامعة، وهم الذين يستطيعون تدبير وظائف لأولادهم الجاهلين فور التخرج، رغم البطالة السائدة.. فلماذا لا ينتشر الغش وشراء الذمم؟!. وقد ساعد على استفحال هذه الظاهرة- إلى جانب الانهيار الجامعي- وجود الجامعات والمعاهد الخاصة التي تؤكد بنظمها الحالية المعلنة أنها نشأت لهذا الصنف من الطلاب. فالجامعات الخاصة في الدنيا كلها تتنافس في اجتذاب الطلاب المتفوقين أكثر من التنافس على (جيوب) أولياء الأمور، لأن المستوى الأكاديمي للجامعة ومستوى خريجيها هو الأهم.. وهو الذي يجلب المال أيضا؛ لأن الطلاب في الدول الجادة يتسابقون للالتحاق بالجامعات المحترمة ذات السمعة الممتازة التي تهتم أساسا بالعملية التعليمية وبتخريج أفضل المتخصصين. وهذا واضح أيضا حتى في بعض مدارسنا الخاصة الحالية.. فالمدارس الخاصة المتميزة لا تقبل إلا أفضل الطلاب، بل وترفض قبول الطلاب ضعاف التحصيل حفاظا على سمعتها. وقد تسربت آفة الغش إلى كثير من الجامعات أيضا، وهناك غش (رسمي) من نوع آخر تقترفه أغلب الكليات الآن من خلال إعداد قائمة من الأسئلة (وبيعها للطلاب) تحت مسمى "الشيت".. ولا يخرج الامتحان عنها لأن الطالب اشتراها بِحُرِّ ماله، والأستاذ حصل على هذا المال!. والشيء الذي ينذر بالخطر أن كارثة الدروس الخصوصية بالتعليم العام انتقلت كما هي إلى الجامعات الكبرى، وصارت مشكلة الطلاب الآن هي ضياع وقتهم في التنقل بين المراكز التعليمية المتناثرة في أحياء العاصمة، بل والشكوى من الازدحام بهذه المراكز. إننا الآن بحق (أمة في خطر) بسبب فساد التعليم.. ونواصل الأسبوع القادم بمقترحات للإصلاح. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.