المتابع للحالة السياسية المصرية التي تتكون من مشاهد متناقضة أحيانا ومن محاولة بعض الأطرف السياسية استعمال كل أوراق الضغط لديها في سبيل تحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب الخاصة بها ولو كان ذلك على حساب الوطن والأرض والتاريخ. أذكر ذلك وأنا أرصد المشهد المسيحي المصري منذ أكثر من عامين حيث ظهر جليا أن القلق المسيحي قد بلغ منتهاه والذي مهد لردود فعل مدروسة من قبل المؤسسة الدينية ( الكنيسة ) التي أخذت بيدها زمام المبادرة للضغط على النظام لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب في ظل الضعف الظاهر للنظام واستغلالا للمناخ الدولي الذي يهدد كل الأنظمة العربية بالويل والثبور وعظائم الأمور ، دعوني أتسائل: من المسئول عن بث ثقافة الشك والريبة والتوجس في المجتمع ؟ من المسئول عن التقوقع الفكري المسيحي والتوتر الدائم ؟ ومن المسئول عن تشكيل الوجدان والإدراك المسيحي في مصر؟ هل المسئول عن ذلك النظام ؟ أم الآخر المسلم ؟ أم أن المسئول هو النظام التعليمي في الكنيسة ؟ أم هو خليط من كل ماسبق ؟ الحقيقة أنه ومن خلال صداقات عميقة مع زملاء مسيحيين وحوارات مستمرة معهم - سأذكر بعضها على اختلاف ثقافة أصدقائي الذين منهم الطبيب والصيدلي والعامل والمهندس – فوجئت أننا نعيش في وطن واحد ولكن الثقافات المترسخة في الوجدان متباينة أو استأصالية إلى حد كبير : الحوار الأول دار بيني وبين صديقي الصيدلي عن حرب 73 والذي ذهلت حينما أخبرني أنه لايكره إسرائيل بل على العكس يتمنى لها البقاء والانتعاش لأن المسيح لن ينزل بالملكوت إلا في ظل دولة لإسرائيل وهنا دار في ذهني سؤال لو أنني طيارا مسيحيا مصريا في معركة وطنية ضد إسرائيل ماهي حجم المعاناة النفسية التي سوف أعانيها حينما تأمرني قيادتي بدك إسرائيل بينما تدعوني كنيستي لأن أحافظ عليها حتى ينزل المسيح ، كما دار حوار بيني وبين عامل مسيحي يعمل معي بنفس المؤسسة الطبية حيث قال نحن " المسيحيون المصريون " لسنا عربا ، أنتم " يعني المسلمون المصريون " عربا قادمون من خلف الحدود ويجب عليكم أن تغادروا إلى الجزيرة العربية وتتركوا البلد لأهلها الأصليين ، إن أعمدة الرخام التي تزين مساجدكم مأخوذة من كنائسنا بعد هدمها على رؤوس من فيها . هذه الحوارات هي ملخص لثقافة فئتين مختلفتين في القدرة على الرصد والتحليل لكنهما بالنهاية اتفقا في نمط التفكير وتوصلوا إلى ذات النتائج ، والأسئلة التى تطرح نفسها الآن : 1. ما هي البرامج التعليمية الكنسية التي تصوغ عقول المسيحيين على اختلاف مستوياتهم العلمية؟ وهل يمكن الاطلاع عليها وهل هي مراقبة من الدولة أم لا؟ 2. ما هو حجم التحريض في هذا التعليم إذا وجد ضد ثوابت المجتمع مثل "الوحدة الوطنية" والتي يجب أن تكون مصانة ومرعية عند الكافة مسلمين ومسيحيين ؟ 3. للإخوة المسيحيين كامل الحق في الاطمئنان على مستقبلهم ووجودهم في هذا المجتمع ولكن أليس من حق الآخر المسلم أن يطمئن كذلك على متانة واحترام الثوابت التى تحمي العلاقة بين طوائف الأمة ؟ 4. لم هذا التناقض الواضح في قضية إسرائيل بين الموقف المعلن للكنيسة والتي منعت الحج للأماكن المقدسة المسيحية بفلسطين حتى تقوم دولة فلسطينية مستقلة ومعترف بها وبين التعليم في الكنيسة الذي يصوغ عقلية المسيحيين المصريين؟ 5. ما هي علاقة الكنيسة بالأقباط المصريين في الخارج ؟ هل تشملهم الرعاية البابوية أم هم خارجون على الكنيسة ؟ وإن كانوا كذلك فلماذا لايطردهم البابا كما يتم مع الخارجين على الكنيسة؟ أم أنهم صقور الجناح السياسي للكنيسة ؟ 6. هل الكنيسة تعترف فعلا بالدولة المصرية ؟ وتعتبرها المرجعية للمواطنين المسيحيين تماما كما هي بالنسبة للمسلمين ؟ 7. لماذل تعتبر الكنيسة نفسها مسئولة عن المواطنين المسيحيين خارج حدود الرعاية الدينية ؟ 8. هل المواطنون المسيحيون ومنهم رعاة الكنيسة مستعدون لاحترام الاختيار الديمقراطي للشعب المصري أيا كانت النتيجة؟ وكثير من الأسئلة الأخرى التي لاتجد جوابا شافيا والتي إن ظلت دون إجابات واضحة سوف تصل حتما بالمجتمع إلي تجذير ثقافة الشك والريبة وإلى الطعن في الثقة المتبادلة بين فئتي الأمة. دعونا نتفق على الأمور الآتية : 1. إن الشعب المصري كله بحاجة لبناء دولة المؤسسات والقانون والدستور، ويؤيد تماما مبدأَ الفصل بين السلطات وتداول السلطة ، والمجلس التشريعي والمحكمة الدستورية مرجعية لكل أبناء الشعب ، كما أنه بحاجة إلى ترسيخ ثقافة الديمقراطية والحوار . 2. أن كل مصري له الحق في المشاركة السياسية والدفاع عن تصوره في شكل الدولة المصرية التي يريدها بما لايخالف الدستور . 3. أن المرجعية في كل الأمور هي لمؤسسات هذه الدولة وليس لسلطة دينية أو فئوية أو عشائرية. 4. أن الأمة كلها " مسلمين ومسيحيين " مدعوة للمشاركة في النهوض بالدولة سياسيا وثقافيا واجتماعيا دون الحرص على تحصيل مكاسب طائفية أو فئوية . 5. اعتبار ثقافة التحريض والكراهية ضد الآخر هي عمل مشين ويستحق اتخاذ كافة الإجراءات القانونية الرادعة ضده للمحافظة على وحدة الوطن ومصالحه العليا. 6. أن يقوم المسيحيون ببث رسائل تطمين إلى إخوانهم المسلمين حول حرصهم على الدولة ومتانة بنائها وأن الذين يبثون الكراهية ضد المسلمين هم خارج الإجماع المسيحي وكذلك خارج الرعاية البابوية وواقعون تحت طائلة القانون. 7. استنكار ثقافة العنف واستخدامه ضد أي فصيل سياسي سواء كان هذا العنف صادرا من الدولة أو أي فئة سياسية أخرى. 8. رفض الاستقواء بالأجنبي وتجريم من يلجأ إليه وخاصة أمريكا وإسرائيل وعدم التواطؤ معهما في تمهيد الأرض لتدخلاتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية في شأن المصريين. 9. الشفافية المطلقة مطلوبة من كافة الفئات وكما أن الدولة تراقب بل وتضع مناهج التعليم الديني الأزهرية فإن الكنيسة مطالبة بأن تكشف مناهجها الدينية والتربوية والاجتماعية التي ربما ساهمت في تشكيل الوجدان المسيحي الممتلئ بالخوف والتوجس. 10. رفض المحاصصة الطائفية والسياسية لأنه يخالف كل الأعراف والدساتير في العالم حتى الدستور الأمريكي نفسه والتي لن تساهم في استقرار المجتمع والنهوض به . 11. احترام الخيار الديمقراطي للشعب المصري أيا كانت نتائجه واعتبار المنافسة السياسية الشريفة هي الخيار الوحيد لأبناء الشعب للتعبير عن تطلعاتهم وآمالهم. 12. أليس من الواجب أن تدفع الكنيسة أبناءها للمشاركة السياسية بتشكيل الأحزاب والانخراط فيما هو قائم للتعبير عن آرائهم في إصلاح المجتمع وتحمل نتائجه أيا كانت أم ستظل الكنيسة تعتبر نفسها الراعي الوحيد للمسيحيين سياسيا كما هو دينيا . 13. إطلاق الحريات بما لايتنافى مع الدستور واعتبار الإكراه لاعتناق دين أو ترك دين عمل مخالف للدستور وأن المرجعية في هذا الشأن للمحاكم وليس للابتزار أو لوزارة الداخلية أو وسائل الإعلام. 14. اعتبار أن مشكلة دور العبادة للمسيحيين والمسلمين يمكن أن تحل من خلال التمثيل العددي الحقيقي للفريقين في المنطقة التي يراد إقامة دار جديدة للعبادة بها لأن النهوض بالدولة لن يكون بالتنافس في إقامة دور العبادة ومن ثم تشريع قانون لذلك يرعاه الجهاز القضائي المصري. في ظني أنه بالاتفاق على النقاط السابقة والإجابة على الأسئلة التي سبقته يمكن فض حالة الاشتباك والاستنفار الموجودة حاليا والتحلل من عقدة الخوف والشك الناتجة عن المناخ السياسي المريض الذي عاشته البلاد لاكثر من خمسين سنة من حكم العسكرتارية.