إن الإنسان مهما علا نجمه، يظل عرضة لمجموعة من الأوهام المعرفية التي تؤثر على طريقته في التفكير، والوهم المعرفي إنما هو انحراف منهجي عن التفكير المنطقي والسلوك العقلاني. ولعل من أبرز هذه الأوهام المعرفية ما يمكن الاصطلاح على تسميته "بالمعرفة المزيفة" أو "الاستعراضية". في عام 1918 حصل البروفيسور الألماني ماكس بلانك على جائزة نوبل في الفيزياء عن نظرية الكم، فقام على إثر ذلك بجولة موسّعة في أنحاء ألمانيا ألقى فيها العديد من المحاضرات حول نظريته الحديثة. واستمر في إلقاء المحاضرة ذاتها ردحًا من الزمان، حتى أن سائقه الخاص حفظها عن ظهر قلب. وذات مرة كان البروفيسور بلانك على موعد مع محاضرة أخرى في مدينة ميونيخ، فاقترح عليه السائق أن يلقي المحاضرة نيابة عنه كنوع من التغيير وكسر الروتين الممل، وراقت الفكرة للبروفسيور، واتفقا على تبادل الأدوار، فاعتمر قبعة السائق وجلس في صفوف الحاضرين، بينما اعتلى السائق المنصة لإلقاء المحاضرة. وبرع الأخير في دوره المرسوم، وألقى المحاضرة ببراعة منقطعة النظير وسط إعجاب الحاضرين، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان حين وقف أحد العلماء ووجّه له سؤالاً متخصصًا ظنًا منه أن المحاضر الذي يقف أمامهم هو العالم الفيزيائي الشهير الحائز على جائزة نوبل. ولما كان السائق سريع البديهة، لم يتعلثم، ولم يسرع إلى الكشف عن هويته، وإنما قال في هدوء شديد: هذا سؤال غاية في البساطة لن أجيب عليه، بل أترك سائقي يجيبكم. فرق كبير بين المعرفة الحقيقية والمعرفة الوهمية، وكونك ناقلاً للعلم لا يجعل منك عالمًا، ولا متخصصًا؛ إذ العلم لا يتأتى إلا بالدربة والمثابرة وطول الطلب، والعالم الحقيقي يدرك حدود معرفته ونطاق اختصاصه فيقف عنده، لا يخجل إن سُئل عما يجهل أن يقول "لا أدري". بيد أن أدعياء العلم يهرفون بما لا يعرفون، ويستحون من هذه الكلمة فيظنون إن هم قالوها أن الناس يسقطونهم من أعينهم ويرمونهم بالجهل. وقديمًا قالوا: إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله. وقد سئل الشعبي عن شيء فقال: لا أدري. فقيل: ألا تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحِ حين قالت: "لا علم لنا إلا ما علمتنا". البعض منا قد أنعم الله عليه بحسن الإلقاء فإذا تحدث امتلك ناصية القول فأتى بلفظ منتخل وعبارة محبّرة، وفاق نظرائه وبرعهم بسهولة أسلوبه وشدة أسره وإحكام نسجه، فغرّه ذلك لأن يدلي بدلوه في كل أمر، دون التفات لاختصاص أو وقوف عند حدود معرفته، وانطلق يستعرض ملكاته الخطابية وقدراته البلاغية، ظنًا منه أن هذا القدر يكفيه، وأن بلاغته تحميه. وكان حريّا به ألا يركب هذا المركب الوعر، فهو وإن خدع عموم الناس، لا ريب تنجلي حقيقته أمام المختصين، ويظهر زيفه وادعاؤه للعارفين، فيبقى طبل فارغ وزقّ منفوخ، ملؤه هواء. والأجدر بهذا الصنف من الناس أن يتحرر من وهم التعالم، وادعاء المعرفة، قبل أن يوغل في طريق المهالك ويستزل العقل حتى يرتطم في ردغة الخبال. ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.