يحكى أن مسئولا تنفيذيا دخل على مسئول أكبر ومعه مشروع لإنصاف هيئة التدريس بالجامعات المصرية ، وعندما سأل الأخير الأول عن الأوراق التي يحملها ، وعرف أنها من أجل هؤلاء المظلومين المقهورين في الجامعات ؛ فإن الأخير – والعهدة على الرواة-ألقى بالأوراق في وجه صاحبه ؛ تعبيرا عن عدم اكتراثه بهؤلاء الذين يعنيهم الأمر ، وتقليلا من شأنهم ، فهم لايمثلون تأثيرا يذكر في المجال السياسي أو الاجتماعي ، وهم محكومون في كل الأحوال بضباط الشرطة الذين يسمونهم الحرس الجامعي أو نظرائهم الذين يسمونهم " حبايبنا الحلوين " وأولاء لايظهرون على السطح غالبا ، ولكنهم حاضرون في تعيين الرؤسا ء والعمداء والوكلاء والنواب ،وفي انتخابات اتحاد الطلاب يشطبون على غير العملاء الذين يزودونهم بالتقارير ، وعند إلغاء الندوات والمحاضرات العامة التي لاتروق لهم . الجامعات التي كانت في فترة ما قبل الانقلاب العسكري في يوليه 1952، بوتقة للفكر الحر ومركز نشاط ثقافي وعلمي وسياسي يحرك المجتمع ويدفعه إلى الأمام ويبث فيه القيم وروح المقاومة والتصدي للاستبداد والطغيان ، تحولت فيما بعد الانقلاب المذكور إلى مؤسسة مستأنسة مغلوبة على أمرها ، لاحول لها ولا شأن ، ينعم بقيادتها والرأي فيها من يرضى عنهم النظام الحاكم ويرى فيهم أنصارا مخلصين يقمعون كل ما ومن يختلف مع معه،فانحط البحث العلمي ، وماتت القدرة على الحوار والجدل ، وتراجع دور الجامعة الاجتماعي والسياسي والثقافي ، فضلا عن المستوى التعليمي الذي جعل المقياس الدولي لأفضل خمسمائة جامعة على صعيد العالم لاتظهر فيه جامعة مصرية واحدة ، وانهارت قيمة الأستاذ الجامعي الذي تدنى مرتبه فصار يقف في طوابير العمالة الذاهبة إلى الخليج أو ليبيا ليتحول إلى مجرد رقم في أوراق التراحيل المسافرة والعائدة ، فضلا عن عذابات نفسية ومضايقات عنصرية هنا وهناك ، دون أن تسانده حكومة ، أو تدعمه نقابة أو هيئة ينتسب إليها ! ولاشك أن هناك كثيرا من الشرفاء في الجامعات المصرية يحلمون باليوم الذي تستقل فيه الجامعة المصرية ، وتمثل مركز حركة وتوجيه للمجتمع سياسيا وفكريا واقتصاديا وثقافيا،وتتمتع بالاستغناء عن مد اليد إلى جهات أخري غير الوطن ، ولكنهم مقموعون ومتفرقون ومشتتون ومهددون بجهات الأمن ، ومجالس التأديب .. وما زالوا يذكرون أن واحدا من الأساتذة تولى الوزارة لسنوات طوال فكان كل همه أن يرضي النظام البوليسي الحاكم ، وكان من أبرز إنجازاته (!)تفريغ نوادي هيئة التدريس من صلاحياتها في التعبير عن هموم الأساتذة ومعاونيهم ، وكان سعيدا بتحويل هذه النوادي إلى مجرد مقاه يشربون فيها الشاي ويثرثرون عن الأحوال الأسرية وأخبار الزملاء والأصدقاء !!ثم كان من أكبر إنجازاته أيضا إلغاء انتخابات العمداء بحجج واهية (!). كانت حركة 9 مارس التي انطلقت عام 2005من بعض الجامعات الرئيسية ، وقادها أساتذة فضلاء انتصارا لقيم جامعية ، ورفضا للتسلط الأمني ، خطوة مهمة في دائرة الحراك السياسي والاجتماعي بحثا عن الحرية والاستقلال ، وسعيا لتحريك دور الجامعة بما يعني الرفض للامتهان الذي يعيشه المجتمع ، والجامعة في طليعته .. ولاشك أن انتصار القضاة في مسيرتهم نحو استقلال القضاء ، والعمل على إصدار قانون استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية ، بالإضافة إلى مواقفهم العديدة في الانتخابات العامة أو انتخاباتهم الخاصة على مستوي أندية القضاة .. كل هذا سيشجع أساتذة الجامعات على الاقتداء بهؤلاء القضاة الشجعان الذين واجهوا قسوة النظام وصلافته وجبروته الذي وصل إلى حد الاعتداء البدني على بعض رؤساء اللجان الفرعية والعامة في الانتخابات التشريعية الأخيرة .. إن انهيار الجامعة لايعود إلى ضعف التمويل أو قلة الكوادر أو ضيق الأماكن ، بقدر مايعود في الأساس إلى أزمة روحية صنعها النظام البوليسي الذي رأى أن وأد الجامعة وسلبها قدرتها على مقاومة الاستبداد والفساد ، هو طريقه الوحيد إلى البقاء على صدر الوطن المظلوم .. وكما تصرف هذا النظام بوحشية مع الحقوق الدستورية للشعب في الحرية وحق تشكيل الأحزاب ، وحق إصدار الصحف ، وحق بناء حياة سياسية حقيقية تقوم على التنافس والحوار المثمر ، ثم سيطرته على وسائل التعبير من صحافة وإذاعة وتلفزة ووسائط أخري .. فإنه في الوقت ذاته وجد أن الجامعة هي آخر الحصون التي تقف في طريق الاستبداد ، وكان عليه أن يسدد لها ضربة قاصمة تنسف استقلالها وكيانها وحاضرها ومستقبلها ؛ فسلط عليها الحكم البوليسي من داخلها ، وأجاع أساتذتها وحولهم إلى تراحيل ، تبحث عن لقمة العيش التي تكون أحيانا مغموسة بالذل والمهانة ، ولا ينبئك مثل خبير ! ولا أظن أن أهل الجامعة سيظلون صامتين أمام الغزو البوليسي لحرمهم الجامعي الطاهر ، ولا تدخله الغشوم في حركة الجامعة وعملها .. ولكنهم سينتفضون ذات يوم انتفاضة كبري تشبه انتفاضة القضاة ، وربما أعظم ، وإن كانت السلطة قد صنعت لها كثيرا من الركائز والصنائع الذين يسبحون بحمدها ويلهثون وراء فتاتها .. والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لايعلمون.