ما يجري في مدينة سرت وسط ليبيا مهم للغاية لتبصر المعادلات السياسية المزورة التي تروج كثيرا في المنطقة للحديث عن مكافحة الإرهاب ، أو تلك المحاولات الدؤوبة للصق ظهور الإرهاب وانتشاره بالربيع العربي وتفكك جيوش المنطقة ، ما يجري في سرت يقول باختصار أن الربيع العربي هو أسهل وأسرع الأدوات السياسية لمواجهة داعش ، عسكريا وسياسيا وفكريا أيضا ، وهو الطريق الأقل كلفة على الشعوب ، فقد نجح ثوار ليبيا خلال حوالي ثلاثة أشهر في دحر تنظيم داعش من "عاصمته" المحصنة في ليبيا سرت والتي أثارت فزع عواصم غربية كبرى ، واستغلتها نظم شرق أوسطية للدلالة على انتشار خطر التنظيم وأهمية إعادة الرموز العسكرية للنظم المستبدة السابقة بوصفها الوحيدة القادرة على مواجهة التنظيم ومنع انتشاره ، ثوار ليبيا ببساطة أثبتوا خطأ تلك النظرية ، عندما تمكنوا من الزحف إلى سرت واقتحامها ومحاصرة التنظيم في مربعات صغيرة ثم تطهير المدينة شارعا شارعا من عناصر التنظيم الإرهابي ، بصورة أبهرت الجميع ، وقد دفع ثوار ليبيا ثمنا كبيرا من الأرواح في تلك المواجهات ، والمبهر أكثر أن هذه الانتصارات حققها الثوار دون أي عون يذكر من القوى الدولية ، بل في ظل فرض حظر على توريد السلاح لليبيا ، فلم يحظوا بواحد في المائة من الدعم الذي كانت تتلقاه ميليشيات الأكراد في شمال سوريا أو حتى جيش المالكي الطائفي في العراق ، فقط في الأسبوعين الأخيرين قام طيران أمريكي بغارات محدودة ، لزوم إثبات الوجود ، بعد أن كان كل شيء قد انتهى تقريبا ، وبقيت عمليات التطهير . الكتائب التي نجحت في تطهير ليبيا من الإرهاب هي كتائب ثورة 17 فبراير ، التي أطاحت بالطاغية معمر القذافي وأنهت نظامه الذي أهان ليبيا وشعبها وسامهم سوء العذاب والقمع والقهر وإهدار المقدرات الوطنية طوال أربعين عاما ، نفس الشباب الذين قاوموا القذافي قاوموا داعش ، وكما انتصروا على القذافي انتصروا على داعش ، بينما الجنرال خليفة حفتر الذي حظي بدعم عسكري وسلاح وذخيرة وتدريبات وأموال طائلة من دول إقليمية وأخرى كبرى ، ما زال غارقا في بنغازي منذ عامين هو وجيش القذافي الذي يحاول إحياءه ، بزعم أنه يحارب الإرهاب ، فدمر المدينة وحولها خرابا وهجر أهلها ، ولم يفلح في أن يسيطر عليها حتى الآن ولن يفلح ، رغم كل هذا الدعم ، وذلك ببساطة هو الفارق بين الثوار والمرتزقة ، من يضحون من أجل وطنهم ، ومن يحاربون من أجل مكاسبهم ومناصبهم وطموحهم الشخصي مع مصالح آخرين خارج حدود الوطن ، كما أن الحرب المجنونة التي قادها حفتر في بنغازي كانت في حقيقتها ضد قطاع من ثوار ليبيا وليست ضد إرهاب داعش ، فوجودهم هناك محدود جدا وهامشي للغاية. نجاح ثوار ليبيا في سرت وإنهاء وجود الدواعش في عاصمتهم وقلعتهم الحصينة ، سبقه نجاح الثوار أيضا في إلحاق هزيمة ساحقة بداعش في مدينة درنه بالشرق الليبي ، أيضا خلال معارك لم تستغرق أكثر من ثلاثة أشهر تقريبا وبدون أي دعم خارجي ، وهو أمر يدعونا إلى المطالبة بمراجعة خطط وأساليب مواجهة داعش في أماكن أخرى من العالم العربي ، مثل العراقوسوريا ومصر أيضا ، فنحن في مصر نعاني عناء شديدا من الخطر الذي يمثله تنظيم "ولاية سيناء" الذي أعلن تابعيته لتنظيم داعش وأطلق على نفسه اسم "ولاية سيناء" ، فالحرب متواصلة معه من الجيش والأمن طوال ثلاث سنوات الآن ، بدون أفق للنهاية ، ونزيف الخسائر لأبناء الوطن مستمر ، رغم كثافة الإجراءات التي تمت بإخلاء الشريط الحدودي ومنطقة رفح ونقل الكثير من الأهالي والعائلات بخلاف من هاجروا من تلقاء أنفسهم بعيدا عن المعارك ، أيضا هناك تساؤلات عن عجز جيوش دول عظمى عن إنهاء وجود تنظيم داعش في "مدينة الموصل" في شمال العراق ، طوال عامين حتى الآن ، فهناك كتائب أمريكية وفرنسية وألمانية وبريطانية وغيرها ، إضافة لطيران عشر دول على الأقل ، إضافة لميليشيات كردية وطائفية إضافة للجيش العراقي ، كل أولئك عجزوا عن دخول "مدينة" ، وهو أمر لا يصدق ، وكذلك الحال في "مدينة" الرقة ، حيث تزعم روسيا وأمريكا وفرنسا وانجلترا وبريطانيا مع ميليشيات أخرى على الأرض من كل لون ومذهب ، أنهم عاجزون عن اقتحام المدينة أو إخراج داعش منها . نجاحات ثوار ليبيا كاشفة ، ومهمة للغاية ، وأعتقد أنها سببت إحراجات كثيرة لعواصم عربية وعالمية فيما يخص المواجهة مع الإرهاب وتنظيم داعش على وجه التحديد .