الكثيرُ يشتكي اللذة التي لم يقاربها لأنه لا يملكُ، والقليلُ يشتكي اللذة لكثرةِ تكرارها، فجوهرُ الحياةِ أن لا فرقَ بين مَن يموتُ بفقرِ الدم ومَن يموتُ بالتخمة، فكلاهما موتٌ، ولا فرق بين ألمِ الفقير مِن فقرهِ ومعاناةِ الغنيِّ بسببِ غناه، ولو بدلنا هذا مكان ذاكَ بكاملِ ظروفه ما اختار الغنيُّ إلا أن يكون غنيّاً يتأملُ، وما رضي الفقير إلا بفقره يتألمُ، فلكلٍّ لذته وألمُه وسعادته، ومن جمالِ العدلِ في الإنسانيةِ أن الفقير عينه مصوبة على جيوبِ الأغنياء، بينما قلوبُ الأغنياءِ تتسولُ راحة بالِ الفقراء، فكأنها قسمة بالسوية، وبؤسٌ بالمناصفة، والجميع إلا من رضي يعتقد أنها ضيزى، لذا كان في القناعة كلُّ الرضا. والحقُّ والخيرُ والجمالُ.. ثلاثةٌ لا ينفكُ أحدُها عن الآخر؛ ففي الجمالِ الخلوُ من النقائصِ وروعةِ التنسيق، والضبطُ المنظمُ أو النظامُ المنضبطُ؛ وفارقٌ بين الزينةِ والجمالِ، فحسنُ الهيئةِ أو الهندامِ نوعٌ مِن الزينةِ، فإنْ تكاملتْ بِحُسنِ الجوهر فذاكَ المعبرُ عنه بالجمالِ، وجمالُ الحاكمِ اهتمامه بشئونِ رعيته، وجمالُ القاضي في تحريه العدل، وجمالُ الغنيِّ بتصدقه وإنفاقه، وجمالُ الفقيرِ في اجتهاده وتعففه، وهكذا لكلِّ شخصٍ جمالٌ، وهذا ديدنُ ودأبُ وخلقُ المؤمن، فشعاره (وجعلني مباركاً أينما كنتُ)، ومنازلُ الجمالِ لا تنتهي ولا سقفَ لها، وبقدرِ الهمةِ تنالُ المنازلَ العليا، فلا ينقطعُ إليها سيرُنا، وعينُ المبصرِ على محاسن دينه ومكارم الأخلاق، وكلُّ دعوةٍ إلى الخير مبناها على الحقِّ ومقرونةٌ بالجمالِ والحسنِ، " وقولوا للناسِ حُسناً"، فمع الجمالِ أنسُ المسامع؛ ومع الحسنِ اطمئنانُ القلوبِ، وحين تلتقي الثلاثة ( الحقُّ والخير والجمالُ) فهذا هو التناسقُ المبهر والحُسنُ المنسجمُ والمواءمةُ البديعة، فاللهُ هو الحقُّ، والرُّسلُ قناديلُ الخير؛ والكُتبُ هي الجمالُ الْمُنَزَّلُ، وبقدر تداخل الثلاثة في حياةِ المؤمن وعيشه في فلكها يكون جمالُ روحه وحُسنُ خُلقه وتناسقُ ملكاته، ومن ثم يفيض أثرها على سَمْتِهِ وهيئته، فلا ترى منه إلا القولَ الجميلَ والصَّبرَ الجميلَ والصفحَ الجميلَ والهجرَ الجميل. رزقنا الله وإياكم الحقَّ والخيرَ والجمالَ.