كان لتونس فضلُ السبق فى كثير من الإجراءات، فى ماراثون الثورات العربية، فلما تقدمت خطوة على طريق الثورة تبعتها البلدان العربية وعندما بدأت أولى خطوات الانتقال الديمقراطى بانتخاب المجلس التأسيسى واختيار رئيس الدولة ورئيس الوزراء عبر ممثلى الشعب اعتبرها الجميع مثالا يحتذى فى الممارسة الديمقراطية عدا أمور قليلة راجعة إلى طبيعة كل شعب وثقافته، غير أنها ضربت أروع الأمثلة بالديمقراطية والمشاركة السياسية، ذلك أن دولاب العمل السياسى لديها خليط بين الإسلاميين والليبراليين، فى توليفة سياسية تعتبر نموذجًا للديمقراطية والحرية والمشاركة السياسية فى بناء الوطن..وهو ما يطرح تساؤلا مهمًا وهو هل تستطيع مصر نسخ المشهد التونسى على أرضها بتوليفة إسلامية – ليبرالية على أرض الواقع، وإذا كانت بإمكانها فعل ذلك ما الآليات التى على أساسها يتم التنفيذ، وما المعوقات التى تحول دون الوصول إلى هذا المشهد الراقى الماثل أمامنا فى بلاد الزيتونة؟ فى البداية يقول مختار نوح القيادى بحزب النهضة: المشكلة فى مصر هى أن المجلس العسكرى نجح فى تمزيق عناصر الثورة، وبالتالى فإن العلاقات النفسية بين التيارات الإسلامية على الأقل قد وصلت إلى حد الاتهامات المتبادلة، هذا فضلا عن أن الحركة الإسلامية فى ذاتها منقسمة حول الزعامة، وهذا لا يُبشر بخير، فالسلفيون وقد أحرزوا نجاحًا كبيرًا بالقياس على حداثة ممارستهم للسياسة، يطالبون بحقهم فى الريادة أكثر من الإخوان الذين أنفقوا – من وجهة نظرهم – أكثر من 80 عامًا ولم يحصلوا إلا على 40% فى البرلمان، ورغم أن حركة الإخوان تدعو للمشاركة إلا أن حالة فقدان الثقة بينها وبين القوى السياسية الأخرى ستحول دون الانصهار الفعلى. وأضاف "نوح": لكنى أتوقع اندماجا هشا وتحالفا شكليا بينها، إلا أنه سرعان ما سينتهى لا سيما أن هناك بعض التيارات الليبرالية تسعى فى "تدبيس" الإخوان وحدهم فى إشكاليات جماهيرية مثل ما يسمى الحصانة للمجلس العسكرى والموافقة على اتفاقيات العار. وأشار إلى أن المرحلة المقبلة هى مرحلة "تلويث السمعة" والبحث فى النوايا، وهو ما يستحيل معه التوصل لاتفاق والعمل معا فى دولاب سياسى واحد، وهذا من فعل المجلس العسكرى، الذى أدار الأمور لكى يحصل على ما يريد فى النهاية من خلال أهداف واضحة وهى، أولا: قصر الثورة على عزل الرئيس. ثانيا: التعامل المؤقت مع القوى السياسية إلى حين استقرار الأمور. ثالثا: إعلان نجاح رئيس عسكرى حتى ولو تم تزوير الانتخابات الرئاسية، وقد سار مخطط تنفيذ هذه الأهداف بدقة واقترب العسكرى من جنى ثمار ما كان يرسمه . وأضاف :يجب ألا ننسى أن المشهد ليس مقصورا على القوى الإسلامية والليبرالية وحدهم فهناك القوى الثورية التى ترى أن أهداف الثورة لم تتحقق على أرض الواقع ،لأنهم كانوا يريدون تغيير النظام السياسى للبلاد وهو ما لم يتحقق حتى الآن وهؤلاء سيستمرون فى الثورة وحدهم لأنهم يعتبرون أن النتائج الحقيقية لم تتحقق، وأن المجلس العسكرى قد سطا على السلطة، عكس التيار السلفى والإخوانى الذى أرى أنه اكتفى بما حققه من نتائج وهو السيادة البرلمانية فضلا عن العودة، تمهيدًا لتشكيل وزارى وهم واثقون أن الأيام ستسير على النحو الذى رسموه. وتابع نوح: أما ما أراه أنا فإن رقعة الشطرنج التى تلعب جميع القوى السياسية فوقها فإنها سوف تنهار ويبدأ العد من الرقم واحد، لأن هناك من يرقد تحت الرقعة وسوف يقوم بهدمها فى الوقت الذى يريده. وعلى خلفية ما سبق يكمل نوح: أعتبر أنه من رابع المستحيلات أن تجتمع القوى السياسية سواء إسلامية أو ليبرالية على طاولة واحدة والجميع يضمر هدفا خفيا وهو الفوز فى الشطرنج، وليس مصلحة البلد، هذا بالإضافة إلى الحالة الاقتصادية والتدخلات الخارجية فى رسم الخريطة المصرية، فهناك مئات الرِّيش ترسم خريطة مصر وكلها تريد لونا معينا والنتيجة هو أن اللوحة ظهرت مشوهة بالألوان وليس لها معالم محددة. من جهته يرى الدكتور نبيل عبدالفتاح الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن الوضع التونسى مختلف كثيرًا عن الوضع المصرى، ذلك لأن الوضع التونسى شاركت عدة فضائيات عربية فى صناعته وهو ما يتناقض تمامًا مع ما يحدث فى مصر حاليًا، بالإضافة للتطور السياسى فى تونس، إلا أن الوضع المصرى تشوبه حالة انقسامات شديدة، وخوف من الازدواجية، بالإضافة إلى أن خطاب النهضة فى تونس لم يقتصر فى توجهه على فصيل معين، فكانت صورة الليبرالية والإسلامية جنبا إلى جنب حيث لم يروا تناقضا فيما بينهما، إضافة إلى خطاب نهضوى آخر موجه للقوى السلفية فى الداخل التونسى. وأشار "عبدالفتاح" إلى أن الغنوشى يحاول من خلال ازدواجية الخطاب مواجهة العالم الخارجى، حتى يقول للعالم أجمع لا تناقض مع تصوراتكم، ويتوجه فى الوقت ذاته إلى قواعد النهضة التى أصبحت القاعدة السلفية مكونا أساسيا لها. وأشار "عبدالفتاح" إلى عامل آخر يُرشح عدم نقل التجربة التونسية إلى مصر وهو التهميشات المجتمعية، هذا بالإضافة إلى أن المؤسسة العسكرية التونسية كانت وفية للحركة التى أسست للدولة. وأوضح أن الحالة المصرية أكثر تعقيدا وأكثر تعددية عن المجتمع التونسى، بالإضافة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التى تتكالب على مصر أكثر من تونس. وأضاف د. نبيل عبدالفتاح سببا آخر وهو الدور الخطر الذى تلعبه دول النفط "السعودية والإمارات والكويت" سواء بتدعيم الدعوة السلفية على حد زعمه، أو تجمعات أخرى، وذلك للحيلولة دون أن يتحول النموذج المصرى إلى وحدوى، فقد ترددت تصريحات كثيرة حول التحول الديمقراطى المصرى لكن لم يفِ أحد بوعده، فإعادة بناء الدولة هى المعيار الأساسى للتحول الديمقراطى وليس الانتخابات وحدها. واختتم "عبدالفتاح" حديثه مؤكدا أن الشعب المصرى فى عمومه قادر على الصبر على الفقر والجوع، من أجل البناء، فالفقر لا علاقة له بالاختيار السياسى، فمصر أكبر من الفقر، فإذا أرادت مصر نسخ المشهد التونسى داخليًا فعليها أولا أن تفكر بجدية فى حل المشكلات الاقتصادية ثم قطع الأيادى الخارجية من التدخل فى الشأن الداخلى. من جانبه استبعد عبدالقادر ياسين المفكر اليسارى الفلسطينى إمكانية التوصل لهذا المشهد التونسى داخل مصر لأن الجميع فى تونس كانوا مضطهدين ووعوا الدرس جيدا بأن النهوض لن يكون إلا بيد واحدة وهو ما يتنافى مع الطبيعة الداخلية المصرية، فى ظل وجود قوى سياسية مصرية ضيقة الأفق، وتظن كل منها أنها تحتكر الحقيقة وحدها. وأضاف ياسين أن القوى المصرية لو أرادت التوصل لنفس المشهد التونسى فعليها أولا نبذ إقصاء الآخر، وإقامة جبهة وطنية واحدة بمشروع تنموى يتم الاتفاق على إجراءاته معا، وإن اختلفت أيديولوجيات كل منهم. وعلى الصعيد الإخوانى قال الدكتور أكرم الشاعر القيادى الإخوانى وعضو البرلمان، إن الإسلاميين بشكل عام دخلوا الحياة السياسية تحت شعار المشاركة وليس المغالبة، وهو ما يتمناه التيار الإسلامى لأن البناء لا يمكن أن يكون بيد واحدة بل بمجموعة من الرؤى والأفكار التى تتبلور تحت هدف واحد وهو إعادة بناء الوطن. وعن الحالة التونسية قال الشاعر إن الطبيعة المصرية لا تختلف عن التونسية كون الحالتين عانتا لسنوات من اضطهاد سياسى وأخلاقى، وقد فتح لهما المجال كى يرسما مستقبلهما. وأرجع "الشاعر" إمكانية عدم التوافق إلى أن القوى الأخرى تنظر إلى الإسلاميين على أنهم قادمون من العصور الوسطى وأنهم سوف يرجعون بالدولة إلى عصر الظلام، وهو ما يخالف الواقع قولا ومضمونا، فتجارب أحزاب الإسلام السياسى أحدثت نجاحا رائعا على أرض الواقع من قبل.