نواصل اليوم الحديث عن بعض الحقائق الغائبة التى لا يعلمها الكثيرون حول قضية جزيرتى تيران وصنافير , خاصة فى ظل التعارض الشديد فى وجهات النظر بين المؤيدين للنظام والحكومة والذين يقسمون بأغلظ الأيمان أن الجزيرتين من حق المملكة السعودية , وبين وجهات نظر آخرى تطالب بإحترام أحكام القضاء المصرى الذى أصدر حكما تاريخيا أكد أن الجزيرتين كانتا وستظلان تابعتين للسيادة المصرية . فى البداية أشير إلى أن أبلغ رد على انتقاد البعض لحكم محكمة القضاء الإداري والزعم بأنه خالف أحكام الدستور بإعتبار أن قضية الجزيرتين من أعمال السيادة", أستشهد بجزء من حيثيات الحكم الذى اصدرته المحكمة والتى أكدت أنه ولما كان الدستور فى الفقرة الأخيرة من المادة (151) قد حظر على السلطة التنفيذية إبرام اتفاقيات من شأنها التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة, فإن قيام الحكومة المصرية بالتوقيع على ذلك الاتفاق لا يعد عملا من أعمال السيادة, وإنما هو عمل من أعمال الإدارة مما يختص القضاء بنظر الطعن عليه, التزاما بحكم المادة ( 97 ) من الدستور, والذي حظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. وأكدت المحكمة أن توقيع الحكومة المصرية على الاتفاقية المشار إليها, بما ينطوى عليه من التنازل عن الجزيرتين سالفتي الذكر, هو عمل قانونى إدارى, تنبسط إليه ولاية محاكم مجلس الدولة إعمالا لحكم المادة ( 190 ) من الدستور, ومن ثم فان تقدير مشروعية توقيع الحكومة المصرية على الاتفاقية المشار إليها, يدخل فى ولاية هذه المحكمة طبقا لنص المادة (190) من الدستور آنفة الذكر ونص البند ( 14 ) من المادة العاشرة من قانون مجلس الدولة.
فى هذا السياق , وبمناسبة الحديث عما يسمى بأعمال السيادة , أشير إلى دراسة مهمة أعدها د. محمد عبيد بعنوان " أعمال السيادة أو الأعمال السياسية بين المشروعية والمخالفة الدستورية " والتى قال فى بدايتها إن المراجعة لبعض الأحكام السابقة للمحكمة الدستورية العليا ومحاكم مجلس الدولة كشفت عدة مبادئ تتناول إستبعاد بعض الأعمال التشريعية من الرقابة الدستورية للمحكمة الدستورية العليا بما يحصن تلك الأعمال ؛ سواء كانت قوانين فلا تخضع للرقابة القضائية للمحكمة الدستورية العليا أو قرارات فلا تقع تحت طائلة قضاء المشروعية الإدارى الذي تباشره محاكم مجلس الدولة . والحجة هى إعتبار تلك الأعمال سواء قرارات أو قوانين من الأعمال السياسية أو أعمال السيادة التى لا يجوز إثارتها في المحاكم والخوض فيها لتحقيق إعتبارات تتعلق بالصالح العام وهو رأى سطحى واسع ليس له معيار يقاس عليه ويفتح المجال أمام تغول السلطة التشريعية والتنفيذية على السلطة القضائية ويمنح المشروعية لأعمال تتعارض مع الشرعية الدستورية يصدرها المشرع دون رقيب أو رادع بحجة أنها أعمال سياسية هو أولى و أكثر دراية بها من غيره . وكشفت الدراسة أن مصطلح أعمال السيادة تثور بشأنه العديد من المسائل في تطبيقه إذ يعنى مجموعة من الأعمال التى تصدر عن السلطة التنفيذية في صورة قوانين أو قرارات تتصل بالسياسة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة بما لها من السلطة العليا للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل والخارج و قد تعد فكرة مأخوذة عن قضاء مجلس الدولة الفرنسى الذى يعد أول من أرسى ذلك المبدأ و إنتقل منه إلى عدة دول فمن الدول ما إستقرت آراء محاكمها على تطبيق فكرة أعمال السيادة و إعمالها في قضاءها وتحديد إعتبار المسألة المطروحة من قبيل أعمال السيادة من عدمها سلطة تقديرية للقاضى . وقد نتعجب إذ نرى قضاء مجلس الدولة الفرنسى - المبتدع الأول لفكرة أعمال السيادة - قد عزف عن تطبيقها في إتجاهات أحكامه الحديثة .
وكشفت الدراسة أن فكرة أعمال السيادة و إستبعادها من الرقابة القضائية مردود بأنه مخالف للدستور من عدة أوجه منها : * مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها : المنصوص عليه في المادة 5 من دستور 2014 حيث تؤكد على قيام النظام السياسى في مصر على مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها و إستثناء بعض الأعمال - الغير محددة المعيار وجعلها على سبيل القياس لا الحصر - من رقابة القضاء يعد إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات ويفتح الباب أمام تغول السلطة التنفيذية في إصدار أحكامها دون ضابط أو رابط أو رقيب يعتد به . *سيادة القانون : المنصوص عليها في المادة 94 من دستور 2014 إذ تعد أحكام المحكمة الدستورية بمثابة القانون وملزمة لكافة سلطات الدولة وهى التى تراقب مراعاة السلطة التنفيذية للشرعية الدستورية في أعمالها بإعتبار الدستور قانوناً أعلى لا يجوز مخالفته * حق التقاضى وعدم جواز تحصين الأعمال والقرارات : حيث تنص المادة 97 من دستور 2014 على كفالة حق التقاضى وعدم جواز تحصين الأعمال والقرارات الإدارية وتتعارض فكرة أعمال السيادة مع المبدأين إذا تستبعد أعمال السيادة من رقابة القضاء ويحصن القرار الإدراى من الطعن عليه بحجة كونه عملاً سيادياً ومخالف لما قضت به المذكرة الإيضاحية للمحكمة الدستورية العليا فى قولها : " من أبرز معالم دستور جمهورية مصر العربية الذي منحته جماهير شعب مصر لأنفسها في 11 من سبتمبر سنة 1971، ما أورده في بابه الرابع من أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة مؤكدا بذلك خضوعها للقانون كالأفراد سواء بسواء.
على الجانب الآخر .. كنت أتمنى ممن يرددون أقوالاً مرسلة بهدف (التطبيل ) للحكومة وكسب ود النظام , أن يقرأوا هذه الحقائق القانونية والتاريخية قبل أن يواصلوا ترديد هذه الخزعبلات التى يحاولون من وراءها تحقيق مكاسب شخصية ومادية حتى ولو كان الثمن جزء غال وعزيز من تراب هذا الوطن . ولذلك أدعو هؤلاء ال ( ..........) أن يقرأوا حيثيات حكم محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة, برئاسة المستشار يحيى دكروي ببطلان توقيع ممثل الحكومة المصرية على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية الموقعة فى إبريل 2016 المتضمنة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية. حيث كشفت المحكمة أنه لا محل لاستناد جهة الإدارة إلى سابقة قضاء هذه المحكمة بعدم اختصاصها ولائيا بنظر الدعوى فى أن اتفاقية السلام مع إسرائيل وأخرى كانت بشأن اتفاقية تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص, لأن أحكام القضاء ليست جامدة وتتغير بتغير الموضوع والزمان والقانون الحاكم للنزاع, والاتفاقية محل هذه الدعوى تغاير فى موضوعها الاتفاقيتين المشار إليهما, واللذين لم يثبت انطوائهما عن أي جزء من أراضي الدولة, فضلا عن اختلاف النظام القانونى الذى تخضع له لأن الدستور الحالى استحدث حكما جديدا حظر بموجبه حظرا مطلقا التنازل عن أى جزء من إقليم الدولة بحكم خاص. وقالت المحكمة إنها لم تقض فى جميع الدعاوى الخاصة بالاتفاقيات الدولية بعدم اختصاصها ولائيا بنظرها, فعلى سبيل المثال قضت بجلسة 28 مايو 2013 بشأن نص فى الاتفاق الاوربى المتوسطى لتأسيس مشاركة بين حكومة جمهورية مصر العربية والجماعات الاوربية, والتى صارت لها قوة القانون, بإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى دستورية ما تضمنه من إبرام اتفاقيات لإعادة توطين مواطنى دولة ثالثة فى مصر, ومن ثم فإن الاستناد إلى سوابق الأحكام غير مفيد لجهة الإدارة في هذا الشأن, ولا يغير مما انتهت إليه المحكمة في هاتين الدعويين بنظرهما. وفى النهاية أقول : إننى أتمنى أن يراجع الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه ويعترف بأخطائه هو والحكومة فى التوقيع على هذه الإتفاقية المثيرة للجدل , وأتمنى منه أن يمنع الحكومة من الطعن على هذا الحكم التاريخى لأنه يظهرالرئيس والحكومة فى صورة المدافع عن حق الغير فى أراضينا المصرية .