كملايين المصريين قضيت الساعات السوداء التى أعقبت كارثة بورسعيد مستمرًا أمام شاشتى التليفزيون والكمبيوتر؛ متنقلا بشغف قارب الرعونة بين القنوات الفضائية ومواقع الشبكة العنقودية؛ واجمًا عقدت الصدمة لسانى وشلت كيانى وزلزلت وجدانى؛ تخنقنى العبرات فلا تريد أن تهدأ ولا أن تنطلق فما رأته العينان يشيب من هوله الولدان .. تخاطبنى نفسى اللوامة أن سحقًا لهذه التقنيات التى تُفاخرنا بأنها تجعلنا نعيش الحدث .. فلما عشناه تمنينا لو أن ما حدث ما حدث. أعجزتنى المصيبة عن الحركة وأنستنى النوم والطعام والشراب فلم ينتزعنى من مقعدى الحزين إلا آذان الفجر يحمل لنا الأمل بنهار جديد وشمسٍ تكشف بضيائها المجرمين وتطهر بأشعتها الأجواء الملوثة التى أحاط بنا فيها نعيق الضفادع وفحيح الأفاعى، كانت ليلة ظلماء بكل ما تحمله الكلمة من معنى إلا من خيط أبيض تمثل فى أن ما انعقد فى صدرى ووقر فى نفسى من أول لحظة؛ هو محل إجماع من جميع المحللين على تنوع أطيافهم وتفاوت مشاربهم وتخصصاتهم، فالأمر ليس مباراة كرة قدم ولا فوز وخسارة، الأمر أكبر .. أمرٌ قُضى بليل .. وراءه من خطط له ووراءه من موله ونظمه وسهله، ليكون هدية للشعب المصرى وهو يحتفل بالعيد الأول لثورته وبانعقاد أول برلمان اختاره بإرادته وبإلغاء قانون طوارئ طالما نال من حريته. إننى ممن لا تقنعنهم أكذوبة "اللهو الخفى" المضحكة المخجلة، ولكننى فى المقابل لا أجد من بوسعنا أن نوجه له أصابع الاتهام قطعا وجزما أو قصرًا وحصرا، فقفص الاتهام يعج بالمتهمين على اختلاف التكييف القانونى لتهمة كل منهم من مباشرة لتحريض لتسهيل لتمويل، فلا نستبعد قط قوى الطغيان العالمى المتمثلة فى الصهيوأمريكية وأجهزة استخباراتها ومن شايعهم من قوى الإمبريالية العالمية الذين يخططون منذ عقود بل قرون للسيطرة على مقدرات بلادنا وتركيع شعوبها بالترهيب والترغيب والتغريب، ثم هاهم يرون ما خططوا له وبذلوا له الوقت والجهد والمال يتبخر كسراب بقيعة، وها هى الشعوب تبادر للإمساك بزمام أمورها ومقدراتها، وتسلم قيادتها للنخب المخلصة الواعية من أبنائها. ولكن فى القفص متهمون آخرون من جلدتنا على رأسهم فلول عهد تحالف الفساد والاستبداد؛ الذين يتبنون الثورة المضادة ويدعمونها بكل إمكانياتهم المادية ونفوذهم؛ تلك الإمكانيات والنفوذ الذى سلبوه من الشعب قهرًا وقمعًا فى ظل نظام كان مجرد سكرتارية لفسادهم مقابل العمولاتٍ السخية، وهؤلاء الفلول إذ يرتكبون هذه الجرائم للإفلات مما سبقها من جرائم؛ ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثرواتهم الحرام المعرضة للضياع لو استقرت البلاد وتحققت فيها الطهارة والتطهير، فإن لم يستطعوا فهى سياسة الأرض المحروقة "وعلى وعلى أعدائى"، يناصر هؤلاء الفلول وسائل إعلام مغرضة لا تقل عنهم فسادًا ولكنها أكثر منهم تأثيرًا وإفسادًا؛ مارست أخس الوسائل للشحن والتهييج والتأجيج والتفريق والتشتيت لحساب من سياسته "فرق تسُد"، وتحت إمرة هؤلاء الفلول جيوش من البلطجية الذين أصبحوا أثرياء الحرب؛ حرب الانفلات الأمنى التى تسبب فيها فصيل آخر من البلطجية المتأنقين هم أصحاب السيادة والمعالى الباشوات من أباطرة ضباط الشرطة الذين يرفضون عودة الأمن فى البلاد إلا بما يضمن لهم العودة كطبقة مخملية متربحة مستبدة فوق الشعب وفوق القانون وفوق حقوق الإنسان، وإلا فليدفع هذا الإنسان المتطلع للعدالة والكرامة والحرية ثمن تطلعاته. ومما يؤسفنا أن يقبع أيضًا فى قفص الاتهام مجموعة من المراهقين السياسيين الذين لا نشك فى إخلاصهم ولكننا بتنا لا نعرف ما الذى يريدونه؟ بل نشك فى أنهم يعرفونه!؛ فهم لا يريدون للمجلس العسكرى أن يعمل ولا لمجلس الوزراء أن يعمل ولا لمجلس الشعب أن يعمل ولا للبلد أن تلتقط أنفاسها ولو لهدنة تتحسس فيها خطاها، ويشهرون سلاح التخوين والاستسلام بوجه كل داعٍ للاستقرار مهما كان مقدار وطنيته وإخلاصه، ومما يؤسفنا أيضًا (ويفجعنا ويفزعنا)احتمال أن تكون وراء الأيادى النجسة الآثمة التى سفكت الدم الحرام، أيادٍ أرادت أن تعاقب ألتراس الأهلى الذى طالما ارتفعت الهتافات من مدرجاته "يسقط يسقط حكم العسكر". بقلم: د. أشرف سالم [email protected]