لما نبهتُ على بعض ما يخص منهجية الدكتور سعد الدين الهلالى، ثم عزمتُ على إيراد مثال تطبيقى يوضح المقصود؛ لم أجد أجمل مِن كلام الدكتور الهلالى القديم، قبل أن تتغير أقواله لاحقًا، لسببٍ نجهله. فما نادينا به؛ هو نفسه ما كان يسير عليه الدكتور قبل سنين؛ أعنى ضرورة الترجيح بين الأقوال الفقهية، واعتماد الراجح منها تبعًا للدليل. وهذا عينه ما فعله الدكتور الهلالى فى قضية الخمر مثلاً، رغم ما طرأ على أقواله مِن تغييرات فى الأيام الأخيرة، كان يقول بخلافها قبل سنين. ففى كتابه «التأصيل الشرعى للخمر والمخدرات» (طبعة الكويت2001) (ص/9) وصف الدكتور الخمر ب «الخبيثة اللعينة التى أنجبت خبائث نكد للجتمع الذى استحلها، واستطاب رجسها، وأبى إلا رفقة الشيطان بها». وقال: «الخمر وراء ضياع الأمم وفقدان ثرواتها وارتكاب كل خبيث». إلى أن قال (ص/29): «كلمة الخمر تعنى كيميائيا كل مشروب فيه (إيثيل الكحول) وهى المادة الفعالة فى كل المشروبات المسكرة». وتكلم على حقيقة الخمر، وذكر (ص/88) اختلاف الفقهاء فى تحديد حقيقتها الشرعية، فذكر أشهر القولين فى ذلك، وهما قول الجمهور بأنها «كل شىء قلَّ أو كثُر إذا أسكر كثيره». والمذهب الثاني: أنها «النىء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف زبده قلَّ أو كثُر، أما المسكر من غير العنب فلا يسمى خمرًا شرعًا، سواء طبخ أو لا، وإِنْ كان السُّكْر منه حرامًا». قال (ص/90): «وهذا مذهب الحنفية»، وسمَّى الدكتور أسماء من قال بهذا، واستمرَّ فى عرض المذاهب، ولم يقف عند هذا الحد، بل قال (ص/91): «سبب اختلاف الفقهاء فى حقيقة الخمر»، فذكر سبب اختلافهم، وأدلتهم، وناقش الأقوال وأجاب عن الاعتراضات، وناقش أدلة الحنفية (ص/108)، ثم قال (ص/114): «الترجيح والتعريف المقترح للحقيقة الشرعية للخمر»، واختار هنا قولَ الجمهور وقال: «يتضح لنا قوة قول الجمهور القائل بإطلاق اسم الخمر على كل مسكر، ولا عبرة بخصوص المادة التى يُتَّخذ منها ولو كانت خبزًا وماء كما روى عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، فسواء كان الخمر متخذًا من العنب أو من غيره، سائلا أو جامدًا أومسحوقا، وسواء كانت طريقة تعاطيه عن طريق الفم بالمضغ أو البلع أو المص أو الشراب أو عن طريق الأنف بالسعوط أو الشم، أو كان عن طريق غير معتاد كالحق أو استقبال أشعة معينة أو غير ذلك مما يُستحدث؛ فكل ذلك خمر؛ إذا كانت فيه خصائص الإسكار». وقال (ص/115): «وكل ما استدلَّ به الحنفية من أدلة تم الرد عليها ومعارضتها وبهذا أقول: إن نهى القرآن عن الخمر نهى فى الحقيقة عن كل مسكر». إلى أن قال (ص/116): «من هنا أقترح تعريفًا لحقيقة الخمر المنهى عنها شرعًا بأنه: ما خامر أى خالط العقل عُرفًا؛ أى فى عرف الأسوياء؛ وإِنْ سُمى بغير اسم الخمر، فكل ما يؤثر على العقل بالخلط وعدم الضبط الذى يحكم بثبوته العرف يُسمى شرعًا خمرًا دون النظر إلى أصل تكوينه؛ لأن حيل الشيطان لا تنتهى وهو لن يعدم وسيلة فى إغواء البشر فيقدم لهم من المسكرات ما هو أبلغ فى إيذائهم، وأسرع للفتك بهم، وأضل لعقولهم، ومع ذلك لا يحمل اسم الخمر؛ بل يدعوهم لتسميتها بما تصرفهم عن الأسماء المرتبطة بالأحكام الشرعية» أه. وهكذا لم يكتف بسرد الأقوال، وإنما ناقشها ورجَّح الراجح. ولم يقتصر الأمر على كتابه السابق فقط، بل امتد لغيره من أبحاثه، وربما استخدم تعبير: «الراجح عند أهل العلم» كما تراه على سبيل المثال فى كتابه «قضية المسنين الكبار» (طبعة الكويت2002) (ص/37، 38). بل أنهى الدكتور بحثه عن «الإبداع والابتداع» بقوله (ص/37): «والمختار فى نظرى هو: اعتبار دلالة الاقتران من المرجِّحات عند التعارض جمعًا بين أدلة الفريقين» أه. ولسنا نطلب من الدكتور أكثر من الرجوع إلى منهجه القديم، الذى يتوافق مع منهج أهل العلم فى الترجيح بين الأدلة واعتماد الراجح وطرح المرجوح. [email protected]