الحوار الذي أجرته صحيفة "العربي الجديد" مع المهندس أبو العلا ماضي قبل أيام ، كانت فيه إشارات مهمة جدا عن التحولات التي تجري داخل التيار الإسلامي بخصوص العمل السياسي وتداخله مع الدعوي ، وتعليقه على التجربتين التونسية والتركية ، ولكني أتصور أن ما قاله "أبو العلا" عن تجربة مرسي والإخوان في الحكمة في مصر ، والخطأ الذي أسماه "الأكبر" في تصور الإخوان أنهم قد استأثروا بالسلطة بعد فوز الدكتور محمد مرسي بانتخابات الرئاسة ، وأن الشعب قد فوض "الجماعة" بالحكم ، وكشفه أن النصائح المتواترة قدمت لمرسي من داخل أنصاره ومن خارجهم ، بل من دول أوربية ومن الولاياتالمتحدة ، بتوسيع المشاركة السياسية في الحكم لضمان استقراره ، ولكن "جهة" ما كانت تقنع مرسي بعكس ذلك كله ، وتدفع به إلى المزيد من العناد وتحدي معادلات الواقع البديهية ، حتى جرى ما جرى ، يقول أبو العلا في شهادة تاريخية مهمة : (سيأتي اليوم الذي أتحدث فيه بتفاصيل أوسع، ولكن سأتحدث عن خطأ واحد فقط، وهو الأكبر من وجهة نظري، عندما استغنى الاخوان بأنفسهم عن بقية القوى السياسية في السلطة، وتصوروا أنهم يستطيعون إدارة الدولة وحدهم، وأن نجاح مرسي في الانتخابات الرئاسية أعطاهم تفويضاً بهذا. بالتالي شعروا بالاستغناء عن الشركاء الحقيقيين وكانت نصيحتنا المستمرة لهم بضرورة المشاركة. وهنا أسرد موقفًا واحدًا، فعندما حدثت أزمة الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 دعونا لحوار في قصر الاتحادية في اجتماع قمت بإدارته، وانتهينا بإلغاء الإعلان الدستوري. هدأ بعدها الرأي العام، وعندما انتهت الأزمة قمت بزيارة مرسي في قصر الرئاسة وبصحبتي وزير الشؤون القانونية السابق، محمد محسوب. وقتها قال محسوب: "يا دكتور مرسي ربنا وفقنا وعدينا الموجة العالية الخاصة بالإعلان الدستوري، ولكن ستكون هناك موجة أشد ولن نستطيع أن نواجهها إذا لم نبدأ في الاستعداد لها من الآن". وطالبه بضرورة إشراك القوى السياسية في الحكم، واقترحنا عليه اسمين وهما محمد البرادعي، وعمرو موسى كي يختار من أحدهما رئيساً للوزراء فرفض مرسي، بل وأخبرني قائلًا: "الرئيس الأميركي باراك أوباما اتصل بي وقال لي استفِد بأحد هذين الشخصين معك ومستعد أكلمهما لك. وبعدها اتصل بي أيضًا وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وقال لي استعِن بأحدهما رئيساً للوزراء. وأيضاً خلال زيارتي لألمانيا قالت لي المستشارة أنجيلا ميركل عليك الاستعانة بأحد منهما أي البرادعي وموسى رئيساً للوزراء". هنا قلنا لمرسي "هذا يؤكد وجهة نظرنا وسيريح أطرافًا دولية كثيرة، فردّ مرسي رافضًا "لا" وذكر عددًا من الأسباب التي أتحفظ على ذكرها الآن. بعدها تحدثت إلى المرشح الرئاسي السابق سليم العوا وكان يحضر معنا لقاءات قصر الاتحادية، وطالبته بأن يقترح على مرسي اختيار نائب الرئيس السابق المستشار محمود مكي رئيساً للوزراء، طالما أنه لا يريد البرادعي أو موسى. وبالمناسبة هنا، أذكر أن مكي قال إنه منذ الأسبوع الأول لاختياره نائبًا لرئيس الجمهورية كان يرغب في الاستقالة، إلا أنه قام بتأخيرها بسبب أحداث الإعلان الدستوري. وطالبت الدكتور العوا أن يتصل أيضًا بالمستشار مكي ويأخذ رأيه قبل أن نقترح اسمه على الرئيس مرسي رئيسا للوزراء، فقال لي الدكتور العوا توكل على الله واقترح اسمه على الرئيس مرسي وأنا سأقنع المستشار مكي، فطلبت معادا للقاء الرئيس مرسي بعد اجتماع الحوار، ولكن أثناء الاجتماع للحوار فوجئنا أنه تم إعادة تكليف الدكتور هشام قنديل بتشكيل الحكومة فقام الدكتور محسوب بكتابة استقالته أثناء اجتماعنا لجلسة الحوار الوطني ومررها إليّ فوافقته عليها) . هذه شهادة "أبو العلا" ، وأعتقد ، من معرفتي به وصداقتي له ، أنه من النبل بما يكفي لحجبه عن الافتراء أو التلفيق لرجل في محنة وظل يدعمه إلى آخر لحظة ، وقد دفع حزبه ثمن تحالفه مع مرسي فادحا وما زال يدفعه ، ودفع هو شخصيا جزءا من هذا الثمن ، كما أن هذه الواقعة عليها شهود أحياء وأحرار الآن ، ذكرهم رئيس حزب الوسط في روايته ، منهم الدكتور محمد محسوب ، الوزير السابق لمرسي والذي استقال ، وهو الآن حر طليق خارج مصر ويستطيع أن يكذب الرواية كلها أو يعدلها ، كذلك هناك المفكر الكبير الدكتور محمد سليم العوا ، والحقيقة أن نفس هذه الفكرة كنا نكتب عنها ونتحدث عنها من بعيد مرارا وتكرارا ، وكنا نتلقى بسببها الشتائم والتخوينات والاتهامات من المتحمسين من أبناء الإخوان وقتها الذين أسكرتهم نشوة الإحساس بامتلاك السلطة . أرجو أن يحاول "المتحمسون" إعادة تركيب صورة المشهد السياسي لو أن "مرسي" أخذ بتلك النصيحة ، وكلف البرادعي أو عمرو موسى بتشكيل حكومة وطنية واسعة تضم قوى الثورة وقطاعاتها الحيوية المختلفة ، بل وتنازل لهم طوعا عن مساحة واسعة من صلاحياته كرئيس جمهورية ، وشكل مجلسا رئاسيا من أبرز رموز ثورة يناير الكبيرة وفوضهم لوضع خريطة عمل لتحقيق أهداف ثورة يناير ووحدة النسيج الوطني ، هل كنا سنصل إلى ما وصلنا إليه الآن ، وندفع كل هذا الثمن من الدم والحرية والشتات والأمل الضائع . مضى ما مضى ، ولن يفيد البكاء على اللبن المسكوب ، ولكن هذا لا يعني أن تكون المراجعة بلا معنى أو قيمة ، خاصة عندما ترى أن نفس الأفكار والمعاني والمشاعر التي أنتجت الكارثة ما زالت قائمة ويدافع عنها المدافعون ، وبنفس الحماس ، ونفس قوائم التخوين والاتهام ، وهو ما يجعل أي حديث عن المستقبل أو الإصلاح أو تصويب المسار محض هراء ومضيعة للوقت ، مع الأسف .