لا أتفق مع الذين يتهمون النظام الحاكم بالتفريط فى حقوق مصر فى مياه نهر النيل، ولا أظن أن أحدا يملك الحق فى توجيه اتهام على هذا القدر من الفظاعة والقسوة. فلا يعقل أن يقدم نظام فى العالم، مهما تدنت درجة كفاءته أو فقد أهليته وشرعيته أو وصلت درجة تبعيته للخارج، على التفريط المتعمد فى مسألة تعد قضية حياة أو موت، ليس فقط بالنسبة للشعب الذى يحكمه ولكن أيضا بالنسبة لكيان الدولة التى يدعى تمثيلها والمجتمع الذى يدعى الانتماء إليه. فمصر هى النهر، والنهر هو الذى منح شعبها القدرة على أن يصنع حضارة أضاءت للبشرية طريقها منذ فجر التاريخ. ولا جدال فى أن فشل دول الحوض، التى اجتمعت مؤخرا فى شرم الشيخ، فى التوصل إلى اتفاق شامل حول كيفية إدارة مياه النهر بما يحفظ حقوق الجميع ويحقق التوازن بين المصالح المشروعة لشعوب دول المصب ودول المنبع معاً، يعد أمراً خطيراً، ويجب أن يشغلنا، شعوباً وحكومات، حتى لا تتطور الأزمة إلى مواجهة. غير أن تصوير هذا الفشل وكأنه ناجم عن مؤامرة خارجية حيكت ليلا ضد دول المصب، أى مصر والسودان، وتكشفت خيوطها فجأة، أو نتيجة لجشع ظهرت أعراضه فجأة على دول المنبع، ينطوى على محاولة للتهرب من مسؤولية يتعين التحلى بأكبر قدر منها لمواجهة أحد أهم تحديات المستقبل. وما لم ندرك بوضوح أن المسألة أعقد وأكبر بكثير من هذه الطروحات المبسّطة، فلن يكون باستطاعتنا أن نتقدم كثيرا فى اتجاه البحث عن مخرج يجنبنا الدخول فى صراعات مسلحة جديدة. الطريق الصحيح فى اتجاه البحث عن حل يجب أن يبدأ، فى تقديرى، باعتراف الجميع بوجود أزمة عالمية فى المياه لأسباب كثيرة، أهمها الزيادة المطردة فى استهلاك المياه بسبب الزيادة الطبيعية للسكان، من ناحية، وزيادة احتياجاتهم ومطالبهم باطراد بسبب تغير أنماط الحياة، من ناحية أخرى. كما يجب على الجميع أن يدركوا أن هذه الأزمة تتجه نحو التصعيد، وليس الحل، بسبب عوامل بيئية ومناخية تخرج عن نطاق السيطرة والقدرة على مواجهتها بالكامل. ومع ذلك فسوف يكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن هذه الأزمة ناجمة عن عوامل «موضوعية» أو «محلية» بحتة تخص دول الحوض التسع، ولا دخل للعوامل «الذاتية» أو التدخلات «الخارجية» فيها. فلا جدال عندى فى وجود أصابع أجنبية تحاول استغلال الأزمة للضغط على دول المصب، أى مصر والسودان. وما لم نتحرك على الجبهتين معاً، وفى تنسيق وتناغم كامل مع السودان، فلن يكون بمقدور السياسة الخارجية المصرية أن تصبح فى وضع يمكنها من الدفاع عن حقوق مصر المشروعة فى مياه النهر. لا يتسع المقام هنا لحديث تفصيلى عن معالم سياسة خارجية أقدر على مواجهة هذا التحدى، لكن المؤكد أنه لن يكون بمقدور مصر بلورة سياسة ناجحة، للدفاع عن حقوقها فى مياه النهر، ما لم تكن هذه السياسة مرتبطة برؤية استراتيجية أشمل لتحديد ومواجهة جميع مصادر تهديد الأمن الوطنى المصرى، وعلى رأسها إسرائيل.