ترددت كثيرا قبل الكتابة عن حى مدينة نصر وما آلت إليه الأحوال فيه، وما يحدث لنا نحن سكانه وما نعانيه... وكان سبب ترددى هو حالة من التشاؤم واليأس من أن هناك شيئا فى حال الدولة المصرية الحالى يمكن أن يتغير أو يتبدل جذريا، فى ظل حالة السيولة واللامبالاة واحتقار الشعب التى هى أبرز صفات من يحكموننا ولم ينتخبهم أحد ويتولون بالقوة والقسر مسؤولية قيادتنا، تلهيهم مصالحهم الخاصة، وتزعجهم مطالب مواطنين يطالبون بحقوقهم الإنسانية. غيرت رأيى بعد أن قرأت عموداً بأهرام 25/3 للكاتبة المتميزة زينب الإمام تحت عنوان «اكتب..واسترح»، ذكرت فيه أن علماء النفس الفرنسيين يقدمون نصيحة علمية حديثة لأمثالى ممن يشعرون بالقلق والحيرة وعدم الرضا عما يدور حولهم.. تقول النصيحة إن هناك طريقة فعالة يمكنك أن تتبعها فورا قبل أن تغضب وتخسر علاقتك بالآخرين وبعد أن تطمئن من طبيبك على حالتك الصحية بشكل عام مع عدم الانزعاج من ارتفاع ضغطك ونتائج فحوصاتك، ما عليك إلا أن تجلس فى هدوء ومعك ورقة وقلم واكتب عما تعانيه وترفضه واسترح!! لذلك قررت أن أكتب عن الحى الذى انتقلت إليه منذ أكثر من خمسة عشر عاما رضوخا لنصائح أناس لا أشك فى حبهم وإخلاصهم وهو حى مدينة نصر، ممنيا نفسى بالعيش فى حى جديد هادئ وراق، بعد أن جمعت معلومات عن بداية إنشاء هذا الحى فى ستينيات القرن الماضى، وكيف كان التصور له من حيث المبانى وارتفاعها والشوارع واتساعها والخدمات وتوزيعها.. كانت الشواهد فى تلك الفترة فى أوائل التسعينيات غير مبشرة بالخير حيث بدأت العمارات الشاهقة والأبراج العالية تحل مكان البيوت ذات الأربعة أدوار بحد أقصى كما كان مخططاً، وكانت جميع أنواع المحال تفتح فى شوارع رئيسية بدأ فيها زحام نسبى ولكنى خدعت نفسى بأن ما حدث فى غفلة من القانون وتواطؤ بين السلطات المحلية آنذاك سوف ينتهى اعتماداً على تصريحات نارية وقرارات من أعلى المستويات صدرت بعد الزلزال الشهير الذى هز مصر سنة 1992بأن ارتفاعات المبانى السكنية لن تزيد على ستة أدوار تحت أى حال من الأحوال، وأن المخالفات سوف تزال، كذلك كانت التصريحات حول تجميل ورصف الشوارع عقب الانتهاء من مشروعات البنية الأساسية وإقامة المبانى.. وغيرها من التصريحات التى اعتاد عليها المسؤولون المصريون الذين يجيئون ويذهبون دون أن يعرف أحد سبباً لمجيئهم أو ذهابهم، وبالطبع بدون حسابهم على أقوالهم وأفعالهم!! وخدعنى كذلك أننى عرفت أن عددا من كبار المسؤولين يقطنون هذا الحى، منهم أحد أعرفه معرفة شخصية وصل إلى أن يكون وزيرا.. المهم أننى أصبحت الآن أشعر بأننى أسكن فى حى ربما يكون المثل الأول فى العالم لعشوائية القرارات وانهيار الطرق والخدمات وصعوبة الانتقال والمواصلات.. الشوارع الواسعة صارت كالحارات الضيقة بفعل الأبراج وانتظار السيارات.. جراجات العمارات المنصوص عليها بالقانون تحولت كلها إلى مخازن وبوتيكات وزوايا صلاة تزعق بالميكروفونات.. انتشرت الأسواق التجارية الضخمة أو ما يطلقون عليه «المولات» فى كل مكان وبها المطاعم والكافيهات.. منحوا الأراضى للأثرياء العرب يقيمون فيها ما يشاءون من بنايات تحت دعاوى الاستثمار، ليجنوا هم ثمارها مليارات تذهب إلى حساباتهم، ونجنى نحن سكان هذا الحى المنكوب كل مساوئ الزحام وانعدام التخطيط وفساد نظام لا يعرف للمواطنين حقوقا ومسؤوليات. لم يفكر من عقد الاتفاقات والصفقات مع رجال الأعمال السعوديين والكويتيين الذين أنشأوا «سيتى ستارز» و«سيتى سنتر» وغيرهما الكثير فى أن يطلب منهم كجزء من مشروعاتهم الضخمة المساهمة فى حل مشكلات المرور والمواصلات فى الحى الهادئ الذى اقتحموه باستثماراتهم حفاظا على حقوق سكانه وأمنهم.. رفعت السلطات المحلية يدها عن كل شىء.. ارتفاعات المبانى لا حدود لها، طالما هناك مصالح ورشاوى.. الشوارع القذرة المزدحمة نهاراً والمظلمة ليلاً فى كل أنحاء الحى.. ليس هناك شارع واحد فيه مرصوف كما يجب أن يكون الرصف، وأتحدى أى مسؤول أن يكذبنى ويعلن عن اسم شارع واحد فى هذا الحى الكبير مرصوف بطريقة سليمة، رئيسيا كان أو فرعيا.. أصبح الخروج والدخول من هذا الحى المزرى مأساة تتطلب ما لا يقل عن ثلاثين دقيقة، يمكن أن تصل إلى الساعة إذا كان يوم نحس بمرور تشريفة أو مسؤول كبير أو اجتماعات بمركز المؤتمرات أو مباريات كرة قدم بالاستاد أو زيارة للنصب التذكارى أو.. أو.. مأساة حقيقية يعيشها القاطنون بهذا الحى، ولم يفكر مسؤول واحد فى حل لهؤلاء الملايين الذين يتعذبون يوميا على مرأى ومسمع من نائب الحى بالبرلمان، وهو واحد من مليارديرات الحزب الوطنى ومن أهم أقطابه وأبنائه المدللين!! منذ سنوات قليلة بدا أن هناك مشروعا أعلن عنه فى الصحف لإنشاء أنفاق وكبارى بطريق الأوتوستراد وعند تفرعات الشوارع الرئيسية منه، وبدأت بالفعل إزالة المزروعات بالجزيرة الوسطى للشارع.. استبشرت خيرا وسألت صديقى المهم الذى صار وزيرا وظل قاطنا بالحى لفترة عن هذا المشروع.. فقال لى: بصراحة إنهم يحلمون، فليست هناك ميزانية لمثل هذه المشروعات. وعندما قلت له: وما الحل.. سكت وبعدها بفترة وجيزة عرفت أنه انتقل وعائلته إلى ما يسمى بحى الوزراء بالتجمع الخامس.. أحد إنجازات الوزير نائب الدويقة وحامل الوسام الذى جمع الوزراء فى حى وأحاطهم بالأسوار وأنشأ لهم نفقا خاصا على أعلى المستويات ليصلوا إلى قصورهم فى سهولة ويسر!! ها قد كتبت وأنا أعرف أنه لا أمل ولا فائدة.. ولكن ربما أكون قد استرحت.. فهل ستتحول صحفنا إلى مجرد أماكن للبوح والفضفضة.