رحل الفيلسوف المفكر الموسوعى الدكتور فؤاد زكريا العلاّمة الفارقة فى تاريخ الفكر الفلسفى العربى.. ظل يخوض المعارك الفكرية والثقافية بشجاعة نادرة كمفكر حرّ.. لم يعترف بسلطان سوى سلطان العقل.. ولم يتوقف عن تلك المعارك إلا بعد أن أرغمته جلطة الدماغ على الانزواء فى بيته فى صحبة الصمت والعجز والآلام. وإذا كانت الساحة الفكرية الفلسفية والثقافية قد فقدت هذا الفيلسوف رفيع القامة الفكرية.. فقد فقدته أنا معهم أيضا بل ربما أكثر لما كان بينى وبينه من تواصل علاقة استمرت سنوات، رغم الاختلاف فى الرؤى السياسية. ذلك الاختلاف يؤكد أن ديمقراطية الحوار واحترام الرأى المخالف من أهم عناصر التحضر الثقافى والسياسى. نقطة بداية العلاقة الثقافية مع الدكتور فؤاد زكريا كانت مع إسهامى فى ترجمة عدد من كتب (سلسلة عالم المعرفة الكويتية)، وهى السلسلة المهمة التى أسسها مع الراحل الدكتور أحمد مشارى العدوانى وظل مشرفاً عليها دون توقف. اتصلت به يوما أسأله عن ترجمة كلمة علمية إنجليزية أثناء ترجمتى لكتاب «الذكاء العاطفى»، أجابنى بتواضع وثقة العلماء أنه لا يعرف هذه الكلمة، ثم نصحنى بالاتصال بالدكتور أحمد مستجير المتخصص فى الهندسة الوراثية وترجمة الكتب العلمية، وقد حدث، ورسمت تلك الصدفة أول خطوة فى مسيرة الألف ميل.. كما يقول المثل الشهير.. فى مسيرة صداقة ثقافية وطنية إنسانية مع الدكتور العالم الراحل أحمد مستجير، صداقة أضافت إلى ذخيرة ثروتى المعرفية المتواضعة (12 عاما من علاقة فكرية ثقافية علمية استثنائية) استمرت حتى آخر يوم من حياته، كانت آخر مكالمة هاتفية معه من فيينا قبل وفاته بانفجار فى المخ بأقل من (48 ساعة!). وهكذا ترسم الصدف خطوطاً كثيرة فى خريطة حياتنا. ولأن شعبنا يمرّ اليوم بموجة حراك سياسى مجتمعى مفصلى من أجل ديمقراطية حقيقية للتغيير الشامل.. أحسب أن الحديث عن الدكتور فؤاد زكريا ربما يدخل فى حالة هذا الحراك المجتمعى، تصوراً بأن رحيله قد منع مشاركته والانخراط فيه بالرأى الشجاع والفكر الحرّ. ولعل تعدد زياراتى للدكتور فؤاد زكريا وزياراته لى أحياناً مدعواً مع بعض ضيوفى الأصدقاء من الزملاء والزميلات وبعض الدبلوماسيين من السفراء، عمقت العلاقة مع أسرته الصغيرة ابنه الدكتور مجد زكريا، من أشهر أطباء الأعصاب، وابنته الدكتورة سونيا التى مارست عملها فى مستشفيات لندن، وابنته الصغرى سلمى زميلة وصديقة ابنى (أحمد) عندما كانا يدرسان للحصول على الدكتوراه فى ألمانيا. كان من الطبيعى أن تكشف تلك السنوات السمات البارزة فى شخصية الدكتور زكريا، إنسان ترتكز شخصيته فى البعد الإنسانى على طيبة قلب طفل وقدرة واسعة على العطاء بسذاجة تسهل النصب عليه، ومع ذلك فهو شخصية محارب صارم ومفكر لا يعترف إلا بسلطان العقل والعلم. خاض بشجاعة معارك عديدة ضد التيارات الأصولية، ودعاة التخلف والأفكار النمطية الجامدة، وهاجم العهد الناصرى هجوماً عنيفاً مستمراً، وهاجم من بعده عهد الرئيس السادات الانفتاحى إذ صدمته زيارة السادات للقدس، وتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، ومن أهم كتبه التى هاجمت الأستاذ محمد حسنين هيكل كتاب (كم عمر الغضب) رداً على كتاب هيكل (خريف الغضب)، الذى أثار جدلاً كبيراً بين التيارات السياسية المختلفة، وترك عند رحيله أهم الكتب الفلسفية التى من بينها كتب فى علم الموسيقى مثل «التعبير الموسيقى» و«الفن والمجتمع عبر التاريخ»، و«الإنسان والحضارة». كان عالماً موسوعياً يجمع بين الفيلسوف والمثقف الشامل، ورغم الاختلاف معه إلا أن ديمقراطيته فصلت دائما بين الاختلاف واحترامه وتقديره لمصداقية من يختلف معه، وكثيرا ما كان يتصاعد الاختلاف بيننا إلى قفشات طريفة باتهام كل منا للآخر-دعابة- بالتجمد الفكرى. ورغم عدائه للمرحلة الناصرية فإنه كان يحمل لبعض الشخصيات الناصرية مثل الدكتور أحمد مستجير، وبعض الشخصيات الماركسية واليسارية مثل الدكتور فؤاد مرسى قدراً كبيرا من الاحترام والتقدير. وسوف يذكر له التاريخ أن أهم أهدافه كان إنزال الفلسفة من برجها العاجى إلى شارع الواقع الحياتى بأسلوب شيق فى رصده وتحليله. وأشهد أننى والدكتور فؤاد زكريا، لم يؤثر اختلافنا معا فى الرؤية السياسية على إيمانه بديمقراطية الاختلاف، واحترامه للآراء الأخرى، وهى سمة أساسية من سمات شخصيته الثقافية الليبرالية الراقية. وربما كان هذا كله.. بوصفه قيمة فلسفية ووطنية وشخصية موسوعية، ما جعل زملاءه وتلاميذه من المفكرين والكتاب والأساتذة الجامعيين يعترفون له بريادته فى تنوير العقول ومكافحة الجمود والتعصب.. فأطلقوا عليه فى حفل تأبينه (الفيلسوف الأبرز فى القرن العشرين مكملاً لطه حسين).