عندما يتخطى سعر كيلو اللحم الخمسين جنيهًا فى بلد تعيّن حكومته الطبيب بمائة وأربعين جنيهًا، فعلى هذه الحكومة أن ترحل، لكننا اتفقنا على أن الحياء شعبة من شعب السياسة، ومع انعدامه يصبح من المقبول أن توجد هذه المعادلة، وأن يطلب تلاميذ الاستبداد من البرادعى أن يلتزم بقوانين اللعبة، التى تقضى بأن «نهاتى فى الفاضى»، وأن يسألوا كل كاتب وكل معترض: والحل؟! وكأن هناك من يكتب ليعكر مزاجهم فقط! وسأزعم هنا، بكل غرور، أننى أمتلك الحل وليكذبنى السماسرة، الذين لم يمروا من هنا إلا ليمرروا حياتنا وينزعوا منها كل بهجة وكل حتة لحمة وكوب لبن، وينصحونا بالبدائل النباتية، دون أن يعرفوا أن البقوليات صارت هى الأخرى فوق قدرات المواطن المصرى، لكن من سيبلغهم ذلك؟! فضيحة اللحمة!.. وهذا ليس تجنيًا لأن هذا السعر ينحدر إلى مستوى الفضيحة، ومعه سعر اللبن، إذا أخذنا فى الاعتبار دخل المواطن المصرى، وأننا بلد زراعى، يشقه نيل مهان ومستباح. واللحم، لعلم النظام (الذى ينوحل فى عشر دقائق من الأمطار) هو جزء من إهمال الزراعة لصالح السمسرة والمضاربة فى الأرض وصناعة السيراميك. وللأمانة، فإن إهمال الزراعة المصرية ليس وليد الحقبة السمسرية فى تاريخ مصر، بل يعود إلى أزمنة الإدارة والإرادة الوطنية، التى ألغت الديمقراطية لصالح عقيدة التوحيد. عبادة الزعيم الأوحد، حتى حسن النية والسلوك، وضعت الاقتصاد رهنًا للعبادة نفسها. ولم نتمكن حتى الآن من الاهتمام بكل مواردنا دفعة واحدة. عندما أرادت ثورة يوليو أن ترد على تحويل مصر إلى مزرعة للقطن، اتجهت بكل عزمها وغشمها إلى التصنيع. لم تفعل ذلك فى الصحراء وتستمر فى الاهتمام بالزراعة، بل بنت المصانع على الأراضى الزراعية، وأخطرها كانت قلعة النسيج فى شبرا الخيمة التى بورت مزرعة خضار القاهرة، وقادت العشوائية الإسكانية وتوحش العاصمة الذى نعانى منه اليوم. كان محمد على قد توسع فى زراعة القطن، وضاعف الاحتلال الإنجليزى المساحة، وأصبحت مصر عرضة للأزمات الاقتصادية العالمية بسبب تركيز زراعتها فى محصول واحد. ولم يأت الرد من الثوار بإعادة التوازن للدورة الزراعية، بل باحتقار الزراعة. كان البديل إنتاجيًا، نعم.. صناعة على أرض الزراعة، لكننا وصلنا أخيرًا إلى ضرب البديلين، واختصرنا عبادة التوحيد الاقتصادية فى السمسرة. المصانع التى التهمت الأرض الزراعية بيعت بأبخس الأسعار، لا لتعمل وتحتفظ بعمالها، بل لتتعطل وتتحول إلى أرض سكنية تباع بأضعاف السعر الذى اشتراها السمسار به. لكن الحياة لن تستقيم هكذا، لأن بودرة السيراميك وبودرة الهيروين، التى تشبهها وتربطها بها روابط استثمارية متينة، لا يمكن أن تغنى عن الدقيق أو الأرز أو اللحم. على أن الروابط بين اللحم والأرز والدقيق والملبس أكثر متانة من علاقة بودرة السيراميك ببودرة الهيروين، وعند الاهتمام بأحد عناصر «المنظومة الزراعية» ينتعش العنصر الثانى تلقائيًا. وباختصار، هذا هو الحل: إعادة الاعتبار إلى الزراعة المحصولية وعلى رأسها القطن وصناعاته، حيث تستوعب المحالج ومصانع الغزل والنسيج وورش التفصيل عمالة معطلة تموت فى البحار سعيًا وراء لقمة عيش، علمًا بأن القطن المصرى يعامل فى أسواق المنسوجات معاملة الحرير، أما بذور القطن فتقوم عليها صناعة الزيت، والأهم من الزيت صناعة العلف. وعندما ننتج من بذرة القطن ما يجعلنا نصل بسعر كيلو العلف إلى مستوى أرخص من سعر كيلو القمح، فلن نحتاج إلى خفير بنبوت على باب كل مخبز، ويمكن للخفير أن يتحول إلى عمل منتج آخر، لأن الناس لن تشترى الخبز للطيور والحيوانات المنزلية. وعندما يجد المزارع العلف بديلاً مناسباً للبرسيم سيتحول تلقائيًا إلى زيادة مساحة القمح على حساب مساحة البرسيم، فيزيد إنتاجنا من هذا المحصول الاستراتيجى، الذى لا يمكن أن نتحدث عن سيادة مصرية دون الاكتفاء منه، كما سيتوسع الفلاح فى إنتاج اللحوم التى يلزمها العلف تحديدًا وليس القمح أو البرسيم. والاهتمام بالزراعة وأبحاثها يضمن تعظيم الفائدة من المنتجات الزراعية الرئيسية وفضلاتها، وينجينا من السحابة السوداء المذلة، التى تنتج عن حرق قش الأرز، فى حين يمكن تحويله إلى صناعات مهمة أهمها العلف، الذى سيكمل الدائرة، ويزيد إنتاج اللبن واللحم، فمن العار أن يكون سعر اللحم فى مصر عشرين ضعف سعره فى روما، وأن يكون سعر كيلو اللبن المغشوش فى القاهرة مرة ونصف سعر الجيد منه فى الرياض.