جعل الله تعالى التغيير سنة من سننه الكونية، وقانوناً أساسياً من قوانين الحياة البشرية، ورغم أن المصريين أكثر خلق الله تشدقاً بالدين وأشدهم اهتماماً بربط تفاصيل حياتهم بالله وكتبه وأنبيائه ورسله، فإن المشاهد لهم يتعجب من حالهم وهو يراهم يقدسون الاستقرار وثبات الأوضاع بطريقة تتنافى مع المنطق الذى شيدت عليه الحياة وأيامها، تلك الأيام التى قال الله تعالى عنها «كل يوم هو فى شأن»، ولست ممن يفسرون عبادة المصريين لفكرة الاستقرار وعدم التغيير انطلاقاً من سيطرة الثقافة الزراعية على عقولهم، تلك الثقافة التى تؤكد أن المجتمعات الزراعية أكثر ميلاً إلى الركود والثبات وعدم قبول الجديد، وأنها فى ذلك عكس المجتمعات الصناعية الغربية التى تفضل الحركة والتجديد والتغيير المستمر. فهذا التفسير لا ينهض كأساس لفهم الحالة المصرية التى ترفع شعار «اللى نعرفه أحسن من اللى منعرفوش» وترتاب وتتشكك فى أى جديد يأتيها، سواء كان شخصاً أو فكرة أو حدثاً أو حديثاً! فهناك مجتمعات زراعية كثيرة يؤمن أهلها بفكرة التغيير ولا يشربون كوب البلادة الذى يحلبونه من «جاموسة الاستقرار» مع مشرق كل صباح، كما أن هناك سؤالاً حول دقة وصف المجتمع المصرى بعبارة «المجتمع الزراعى»، فأين هى الزراعة بعد تجريف الأرض، وهجرة بعض الفلاحين إلى العمل فى الخارج، وهجرة آخرين للعمل فى مهن أخرى، لقد أصبحت الزراعة «معرة» للشعب وللسلطة بعد قيام الثورة ومقاومة فكرة أن مصر بلد زراعى، فكانت النتيجة أننا لم نعد زراعيين ولا صناعيين، بل أصبحنا تجاريين، فالعبارة الأوقع فى وصف الحالة المصرية حالياً هى «مصر بلد تجارى»، لكن التجارة هنا تعبر عن رؤية شديدة الخصوصية، لأنها ليست تجارة فى السلع والخدمات، بل تجارة فى الكلام!، خصوصاً الكلام فى الدين، الأمر الذى جعل الثقافة الدينية المتغلغلة فى حياة المصريين هى الأصل فى تمجيد فكرة الاستقرار، وليس الثقافة الزراعية. فالثقافة الدينية السائدة لدى المصريين تتعاكس فى بعض الأحيان مع ما يؤكد عليه الإسلام من دعوة إلى التغيير المستمر والإيمان بالحق فى الحركة والانتقال من حال إلى حال، والسبب فى ذلك يرتبط بالخطاب الدينى الذى يغذيها ويدعو الأشخاص إلى إيثار السلامة «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»، والطاعة العمياء لأولى الأمر «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، والحرص على الحياة والاستمرار فى الخضوع لظروفها مهما كانت درجة رداءتها «ولتجدنهم أحرص الناس على حياة»، فالخطاب الدينى هنا يحاول أن يلوى عنق النص ويفسره بالطريقة التى تؤدى إلى مزيد من الهمود والخمود فى حركة المواطن. فالتغيير – من وجهة نظر أبناء هذه الثقافة التجارية فى فهم الدين- قد يأتى بالهلاك، لأنه يعنى خلع الطاعة والإضرار بالحياة، لأن مواجهة فتنة الظلم السائد فيها قد تتسبب فى فتنة أكبر، حتى لو كان التغيير بالسلم! ويتردد هذا الكلام لدى البعض رغم أن الله تعالى جعل المدافعة بين البشر وصراعهم من أجل إزاحة بعضهم البعض سنة كونية يؤدى التراجع عنها إلى حياة فاسدة «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»، فالتغيير والحراك وتداول السلطة لابد أن تؤدى بالضرورة إلى الإصلاح، أما ثبات الأشخاص والقوى المختلفة فى مواقعها فيؤدى حتماً إلى الفساد، ولنا فى الحال الذى نعيشه خير مثال وأبرع نموذج! فالصراع لابد أن يأتى بجديد وهو علامة صحة على مجتمع لا تخلد أو تشيخ فيه السلطة فى يد أحد، بل يتم تداولها بشكل عادل ما بين الجميع مصداقاً لقوله تعالى «وتلك الأيام نداولها بين الناس». والمسألة لا تتعلق فقط بالتغيير فى أصحاب مواقع السلطة السياسية، بل تنصرف أيضاً إلى المسألة الاقتصادية، فالمال يجب ألا يظل خالداً فى يد شخص أو أسرة أو مجموعة بشرية معينة، بل لابد أن يخضع لعملية تداول وانتقال من يد إلى يد «كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم»، والمراجع للمشهد الاقتصادى المصرى يستطيع أن يستخلص بسهولة حالة التخريب التى أصابت حياتنا نتيجة تركز الثروات بأرقام فلكية فى أيدى مجموعة من المحظوظين يقابلهم ملايين البشر من الفقراء. حتى على المستوى الإنسانى حرض العديد من النصوص الدينية الإنسان على التغيير، وربما كان من باب الاستئناس القول بأن السماح للرجل بالزواج بأكثر من واحدة، والتأكيد على حق المرأة فى الخلع من الرجل يصب فى هذا الاتجاه، ويشدد على فكرة التقلب على ظروف مختلفة، وتجديد الحياة بمعاشرة بشر متباينين كى لا تفسد الحياة الإنسانية بسبب ركود المشاعر والأحاسيس والرغبات. إن فكرة الاستقرار لدى المصريين لا تتعلق إذن بثقافتنا الزراعية بل ترتبط بثقافة دينية تعتمد على التأويل المغرض، وتستند إلى حماية الأوضاع القائمة وتثبيتها فى عقل ووجدان الناس بأية طريقة من الطرق، حتى لو تم ذلك على حساب صحيح الدين، وأمر مؤسف للغاية أن يستخدم البعض تأويلاتهم السلطوية للمفاهيم الدينية من أجل إفساد حياة الناس، رغم أن الله تعالى أراد أن يكون الإسلام أداة لإصلاح الحياة ومنح الفرص للبشر وتحريك وجودهم الراكد. على من يرفعون شعار «اللى نعرفه أحسن من اللى منعرفوش» أن يفهموا أن البحث عن الاستقرار وهم لن يتحقق لأنه يتناقض مع سنن الله فى كونه، وأن الخطر الذى يمكن أن يلحق بهم نتيجة تحريك الماء الراكد سوف يأتيهم من كل مكان! فإذا لم تسع إلى التغيير بإرادة ويقين وإيمان بضرورته فمن الممكن أن تأتيك الفوضى، وقد تدفع فى الفوضى ثمناً أكبر بكثير من الثمن المطلوب منك مقابل المواجهة والتغيير، إننا قد نتفق على أن ظروف وسياقات العصر أصبحت لا تساعد على تجديد العتبة الزوجية، لكن من المؤكد أنها تدعونا بإلحاح إلى تجديد العتبة السياسية!