فى كتاب «أزمة الكساد العالمى الكبير وانعكاسها على الريف المصرى» للدكتور على شلبى الكثير من الوقائع المدهشة فى القرى المصرية منذ لحظة انهيار بورصة نيويورك فى خريف 1929 حتى 1934. ويورد أستاذ التاريخ بجامعة المنوفية مظاهر الفقر التى نتجت عن قلة الطلب على القطن المصرى، وما أثاره ذلك من آراء وتدابير اتخذتها الحكومة المصرية لتصحيح خطأ الوقوع فى فخ الاقتصاد الأحادى منذ عهد محمد على وحتى وقوع الأزمة بتحول مصر إلى مزرعة للقطن. ويسجل وقائع العنف الذى تعامل به بعض عُمد الأرياف فى تحصيل الأموال الأميرية والضرائب من الفلاحين إلى حد الضرب بالكرباج، وبينها واقعة وفاة فلاح فى المستشفى الأميرى ببنها إثر الضرب على يد شيخ الخفر، ولكنه يسجل أيضًا تولى مكرم عبيد باشا الدفاع باسم ورثته المدعين بالحق المدنى ضد القاتل. أوضاع غاية فى البؤس عاشها الفلاح المصرى فى تلك الفترة، ينفيها أنصار الملكية الغاضبون من ثورة يوليو، وهم يكثرون الآن بفضل موجة الجراد التى ترعى فى مؤسسات الدولة المصرية لتتمكن منها. لكن مع ذلك البؤس كان هناك مجتمع يقاوم، وسلطة على غشمها تستجيب للاحتجاج، وكانت لمديرى المديريات سلطات تسمح لهم بتخفيف أعباء المديونيات، كما كانوا على اتصال بالسلطة المركزية ومجلسى النواب والشيوخ، ويقترحون ترحيل الضرائب عامًا أو أكثر أو دخول الدولة مشترية لمحصول القطن والاحتفاظ به لحين عودة أسعاره إلى معدلاتها الطبيعية، أو تسليف المنتجين لتتيح لهم فرصة الاحتفاظ بأقطانهم فى حوزتهم. كانت السلطة حاضرة فى كل مكان على أرض مصر، وكانت صحف تلك الفترة متغلغلة فى الريف المصرى، ولها مراسلوها فى كل ناحية يمدونها بالخبر والرأى من واقع حال الفلاح. وينقل مراسل الأهرام فى منيا القمح بمديرية الشرقية وقائع تعنت الصيارفة الذين يقفون للتحصيل، بمنتهى الشدة والاستبداد، قبل أن ينتهى الفلاحون من جنى قطنهم. وكان فى مصر فى ذلك التاريخ جريدة اسمها «الفلاح المصرى» تصف فى عدد من أعدادها الانهيار الكبير فى أسعار المواشى فى سوق قويسنا، بسبب حالة البيع الجبرى التى وقعتها مديرية شبين الكوم بواسطة معاونى مركز قويسنا تسديدًا للأموال الأميرية «.. هذا وقد بيع أربعة ثيران وجاموسة يمتلكها الشيخ على عبدالعال من مزارعى بلدة دمهوج صفقة واحدة بمبلغ ستة عشر جنيهًا، وبيع لآخر جاموسة وحمارة بمبلغ 420 قرشًا صاغًا». الآن، عادت احتجاجات الفلاحين، لكن لا السلطة عادت لتضع الحلول ولا الأحزاب لتتضامن مع آلام الفلاحين التى لا تجد الآن سوى حركة كفاية وحركات الشباب أبناء العصر الافتراضى فى المدونات والفيس بوك، وقد أثبتوا أنهم أكثر حقيقية وواقعية من الحزب المهيمن بالضحك والأحزاب التى تلعب معه دور المعارضة، فى عالم خيالى لا علاقة له بالواقع المصرى. نحن أمام قوى تنتحر، وتجربة استنفدت مساخرها منذ إطلاق لعبة «حكومة ومعارضة» التى أطلقها السادات واختص حزبه فيها باسم «الوطنى» بعد واحد وسبعين عامًا من مولد الحزب الوطنى (بجد) برئاسة الزعيم مصطفى، وكأنه لم يكتف بالسخرية من نضالات أحزاب الاستقلال وتاريخها؛ بل استخدم هو واللاعبون معه الأسماء ذاتها، ليمسخوها هى الأخرى! فى السياق نفسه، يمكننا أن نقرأ ممارسات حزب الوفد، الذى لم يتعرض اسمه للاغتصاب من خارجه، بل تم اغتصابه بمعرفة بعض رموزه القدامى، وعامًا بعد عام كان يمعن فى الانفصال عن تاريخ الوفد القديم، إلى حد حسم الخلاف داخل الحزب بالرصاص الحى، الذى لعلع فى قصر الباشا! ما ضاع من سمعة الوفد يكفى لإحراق أحزاب العالم، وإن صح أمر الصفقة مع الحزب الوطنى للتخلى عن البرادعى، يكون الحزب قد أكمل مشواره نحو نهاية لا قيامة بعدها. تفاصيل المشروع كما جاء فى مقال الصديق عمار على حسن ب «المصرى اليوم» الأحد الماضى، تنسجم مع تاريخ التجربة الحزبية الصناعية فى مصر منذ عام 1978 حتى اليوم، والتى على أساسها أصبح هناك حزب أغلبية وهمية وأحزاب أقلية وهمية أيضًا استنفدت فى حقبة البيع الكبرى كل مبرر وجودها، أو بالحقيقة استنفدت كل فرصة للنزول إلى الأرض والالتحام بمطالب وطن يتغير، وتبدد الآن فرصتها الأخيرة للتحول من كيانات افتراضية إلى أخرى حقيقية، تعترف بناس مصر ويعترفون بها. لكن التاريخ، الذى لا يرحم، لن يتوقف أمام اتفاق فى حارة، يمنح بموجبه من لم يعد يملك أصوات المصريين ثلاثة وعشرين كرسيًا لمن لا يستحقها.