لا تزال الحدود السياسية أهم العقبات الأساسية التى تعرقل التطور الإنسانى فى جميع أنحاء العالم، ورغم أن وجود عالم بلا حدود سيكون شيئا جيدا فإننا لا يمكننا افتراض حدوثه بل يجب علينا أن نقوم ببناء تلك الحدود، ولن يوجد ما يساهم بدرجة كبيرة فى إنهاء مبررات النزاعات المسلحة وتحقيق التنمية الاقتصادية أكثر من إلغاء الحدود، وفى الحقبة المقبلة فإن رسم خريطة جديدة للعالم لن يكون فقط هدفا يستحق العناء بل سيكون أمرا أخلاقيا وذا قيمة اقتصادية واستراتيجية. إن منطق عالم بلا حدود يعتبر وهميا حتى فى عصر العولمة، فإن 90% من المواطنين لن يغادروا البلد الذى ولدوا فيه حيث لا تزال الحدود تمثل لهم أهمية كبيرة، فمن الجدار العازل الذى تبنيه إسرائيل على الأراضى الفلسطينية مرورا بالحدود الأمريكية المكسيكية فإن مراقبة الحدود ورسمها والدفاع عنها لا تزال تمثل الشغل الشاغل للمجمع العسكرى الصناعى الأمريكى. فالعشرات من الدول التى نشأت بعد الفترة الاستعمارية من الكونغو إلى باكستان ليست لديها حدود أو لا تستحق حتى أن تكون لها حدود بالمعنى المعروف مع جيرانها، وهو خلق معضلات يصعب التعامل معها. فى الشرق الأوسط مثلاً، فإن المشاحنات الدبلوماسية على مدار حقب والاجتماعات التى استضافتها حديقة البيت الأبيض لم تجلب الاستقرار للشرق الأوسط، وإحدى أهم العقبات فى إدراك طبيعة الدولة الفلسطينية هى عدم الاتصال والتواصل الجغرافى بين الضفة الغربية وقطاع غزة لكن الاستثمار فى بناء محاور الطرق والسكك الحديدية والمطارات والموانئ البحرية الحديثة قد يساعد الدولة الفلسطينية المقبلة على الاحتفاظ بمقومات الحياة، إلا أن الاستقلال بدون بنية أساسية لا قيمة له. والأكراد فى العراق يعرفون ذلك، حيث يوقعون اتفاقيات للتنقيب عن البترول مع شركات من كندا والنرويج استعدادا لليوم الذى يتم فيه الاعتراف بهويتهم واستقلال إقليمهم الذى يحمل مقومات التواصل، وإن تم استبدال كل الحدود السياسية الموروثة عن الإمبراطورية العثمانية فى خرائطنا بخطوط تمثل أنابيب النفط فى المنطقة فإن ذلك لن يقودنا لمعرفة تأثير النفوذ والاعتماد المتبادل للحدود التى يمكنها تحقيق السلام. وبالمثل، فعندما نقبل بوضع السودان كوحدة متصلة فإنه هيكل دولة بعد الاستعمار البريطانى ارتبط فيه العرب المسلمون والأفارقة المسيحيون فى أكبر ثانى دولة أفريقية مساحة، وهو مكان كبير جدا شهد 3 حروب أهلية فى دارفور والجنوب والشرق اندلعت فى وقت واحد، إلا أن أى ترتيبات أخرى لتحقيق الاستقرار والأمن ستركز على استقلال دارفور والجنوب عاجلا أم آجلا، مما يتيح لتلك المناطق أن تعيد بناء نفسها كدول صغيرة مع جيرانها بدلا من مواجهة مقاومة الخرطوم وسعيها لتقويضهما من الداخل. وعلى غرار السودان، ستستفيد أفريقيا كثيرا من إعادة التفكير فى حدودها الحالية حيث ظهرت بعض الأفكار الإبداعية للتنقل عبر الحدود مثل مشروعات الطاقة، فقوة أفريقيا الاقتصادية يمكنها أن تظهر من خلال اندماج اقتصادياتها الصغيرة التى تتكون من 50 دولة فى عدد أقل من التكتلات. والقادة الذين يبحثون عن حلول للأزمات الاقتصادية الدولية وضعف التوظيف يجب عليهم التعلم من دروس أكثر الحالات الناجحة للتعامل مع الحدود، وهنا تجربة الاتحاد الأوروبى، أكبر منطقة متعددة الجنسيات فى العالم، وأكبر كتلة اقتصادية تضم 27دولة، و لديها ناتج محلى إجمالى يقدر ب20 تريليون دولار، ويقطنها 450 مليون نسمة، فالحل لمواجهة المئات من الحدود التى ترسم الجغرافيا السياسية يتمثل فى بناء الخطوط التى تربط الشعوب فيما بينها، فإن أنفقنا 10% من إجمالى ما نهدره على الدفاع عن الحدود أو رسمها فإن الحقبة المقبلة وربما الحقب التالية ستكون أفضل من الحقب الماضية.