قابلت ردود أفعال زملائى وأساتذتى من القضاة وتحفظاتهم على عمل المرأة فى القضاء بمزيد من الإحساس بالمفاجأة والدهشة. استمعت لمن يقول استشهادا بكتاب الله إن نصاب الشهادة إما رجلين أو رجلا وامرأتين، وبالتالى فإن امرأة واحدة لا تصلح شاهدة فكيف تصلح قاضية؟! وكان أول ما خطر فى ذهنى أن الرجل وحده لا يصلح أيضا للشهادة بدون رجل آخر أو امرأتين، ولو صحّت هذه الحجة فمعنى ذلك أن الرجل وحده على المنصة فى جميع المحاكم الجزئية فى أيامنا هذه، بل فى كل القضاء فى الإسلام، لا يصلح أيضا فكيف بذلك الرجل الواحد الذى لا يكتمل به نصاب الشهادة أن يجلس وحده على منصة القضاء؟! بمن فى ذلك الخليفة عمر بن الخطاب نفسه ذلك الذى رفض القاضى علىّ بن أبى طالب شهادته لعدم اكتمال نصابها بل هدده بإقامة حد القذف عليه وهو الخليفة إن هو أفشى له عن أسماء من يريد الشهادة عليهم فى أبلغ مثل لاستقلال القضاء الذى كافحنا بمرارة وعذاب من أجله وسنظل، بل إن القاضى علىّ بن أبى طالب لا يصلح من الأساس للقضاء بدوره لأنه لا يكتمل به وحده حد نصاب الشهادة هو الآخر شأنه فى ذلك شأن عمر! وإذا كان هناك عيب فى أهلية المرأة يمنعها من القضاء كما يقولون، فكيف إذن تتساوى المرأة مع الرجل فى الأهلية والتكليف واستقلال الذمة المالية والأحكام والحساب والثواب والعقاب بل حتى الحدود؟! ألم يكن من الأولى لنقص أهليتها وضلال عقلها وسيطرة عاطفتها أن تحظى بأحكام ومعاملة مخففة كتلك التى يحظى بها الأحداث مثلا والأطفال وناقص الأهلية وذوو الإعاقة العقلية؟! وإذا كان لدى المرأة نقص ما فى الأهلية، فكيف أن أول من دخل الإسلام على الإطلاق كان امرأة وليس رجلا، وهى أمنا خديجة التى ائتمنها الله سبحانه وتعالى على رسالته ونبيه فى أخطر أيامها الأولى ترعاه وتحفظ سره أيام كانت الدعوة سرية؟! ثم نقول إن هناك عيبا فى أهليتها يجعلها لا تصلح للقضاء! أى إهانة للمرأة أن نحط من شأنها ونشكك فى جدارتها على هذا النحو؟! بل هو مساس بالإسلام ذاته الذى كرّمها وساوى بينها وبين الرجل فى الحقوق والالتزامات، ثم لا نساوى نحن بينهما إلا فى الالتزامات والتكليف من دون الحقوق. رجعت للنصوص، فلم أجد ثمة تحريماً، رجعت للمذاهب، فوجدت أبا حنيفة يؤيد، وبعض المذهب المالكى والحسن البصرى وابن حزم والطبرى وغيرهم، وآخرهم شيخنا الجليل القرضاوى، ووجدت شروطا وضعت هنا وهناك لا تتعلق بأهلية المرأة للقضاء، ولكن تتعلق باشتراط الكفاءة المهنية الكافية وبعدم تعارض عملها مع ظروفها الأسرية وما إلى ذلك، ولم أجد شيئا من قريب أو بعيد يمس أهليتها كإنسان للعمل فى القضاء، ولم أجد فى كل هذه الشروط ما لا يصدق أيضا على الرجل وصلاحيته للقضاء من اشتراط الكفاءة والظروف الأسرية المناسبة. وأخيرا، وقفت أمام دعاوى زملائى وأساتذتى من أن سبب اعتراضهم هو أن ظروف العمل فى القضاء شاقة، حركة قضائية سنوية وعدم ملاءمة الاستراحات والحمامات وما إلى ذلك!! وأقول وأنا فى حال من عدم التصديق لهذه المبررات إن معهم كل الحق، أدعو كل من يرغب لزيارة واحدة لأى استراحة، أو لمجمع محاكم الجلاء مثلا، ليتأكد أن ظروف العمل فى القضاء لا تصلح لأى إنسان من بابه رجلا كان أو امرأة! وإذا كان هذا هو حال المحاكم التى خضعت لولاية الرجال كل هذا الزمن، فهل من العدل أن نتحجج بتقصيرنا المزمن فى حق أنفسنا وحال قضائنا وسكوتنا على سوء ظروف العمل فيه لكى نجعل من هذا سببا يعطينا الحق فى أن نستأثر نحن الرجال بالمنصة من دون السيدات ثم نقف نحن قضاة مصر أمام العالم المتحضر فى القرن الحادى والعشرين لنقول لهم إننا نمنع المرأة بالجملة من العمل بالقضاء لأننا ليس لدينا لها استراحات و حمامات؟!! ثم إنى لا أفهم فى النهاية من أين أتى أساتذتى بالحق فى الوصاية على ما يصلح وما لا يصلح للمرأة من ظروف هذا العمل أو ذاك، ليخلصوا فى النهاية إلى أنه من الأنسب منعها بالجملة وبشكل كامل مما هو حق لها لأنهم قرروا بالنيابة عنها أن الظروف غير مناسبة لها فى رأيهم؟! ألا يعد ذلك فى جانب الرجال تحريما تطوعيا ما أنزل الله به من سلطان؟!. إن جلوس المرأة على كل منصات القضاء هو حق لها، ولا أصدق أن مصر التى سبقت كل الدول العربية فى كل المجالات على مر تاريخها، والتى تأخذ الدول العربية من قوانينها وأحكام محكمتها العليا وقضاتها وفقهائها (ومن بين فقهائها سيدات فضليات على أرفع مستوى)، هى ذاتها مصر التى لا يريد قضاتها للمرأة مكانا بينهم وجدته نساء العرب فى أغلب تلك الدول. إن موجبات الاتساق مع الذات تحتم علينا نحن القضاة، أننا إذا كنا قد كافحنا يوما ما من أجل استقلال القضاء، ومن أجل الحريات ونزاهة الانتخابات صيانة لحق الشعب فى التعبير عن إرادته، فلا أظن أنه يجوز لنا بعد ذلك أن نصادر على حقوق البشر وإرادتهم المشروعة وحريتهم فى الاختيار، بأن نزعم لأنفسنا من دون الله وصاية عليهم نمنح بها ونمنع فيما هو حق لهم، فقط لأنه يتصادف أن هؤلاء البشر يعانون من عيب طفيف جدا، هو أنهم جميعا من الإناث!