رسائل دعم من الرئيس اليوناني للسيسي    إصابة ضباط وجنود إسرائيليين في كمين محكم نفذته المقاومة داخل رفح الفلسطينية    الزمالك يعلن فسخ التعاقد مع المدرب البرتغالي بيسيرو بالتراضي    مدرب برشلونة يفتح النار على التحكيم بعد الخروج الأوروبي    التايكوندو يتوجه للإمارات للمشاركة في بطولة العالم تحت 14 عام    مديرية العمل بالإسماعيلية تعقد ندوة فى المنطقة الصناعية عن مخاطر الإدمان    النيابة تعاين مدرسة المعلم المتهم بالاعتداء على 3 طالبات في الإسكندرية    ضبط المتهمين في واقعة تعذيب وسحل شاب بالدقهلية    إطلاق قافلة مائية مجانية لخدمة أهالي قرية أبو الشقوق بالشرقية    طلعت مصطفى تحقق 160 مليار جنيه مبيعات خلال 126 يومًا    «تموين القاهرة»: سحب 30 عينة عشوائية من المواد البترولية لتحليلها    جدول امتحانات الصف السادس الابتدائي 2025 الترم الثاني بمحافظة القاهرة    بدء اجتماع "محلية النواب" لمناقشة عدد من طلبات الإحاطة    كيف يتم انتخاب البابا الجديد؟    مصرع تاجري مخدرات في حملة أمنية بقنا    ب6 سيارات إطفاء.. السيطرة على حريق مصنع بلاستيك بالقناطر الخيرية    قبل «دم على نهد».. مسلسلات ل«هند صبري» مستوحاه من روايات    «الصحة» تستقدم خبيراً مصرياً عالمياً في زراعة الأعضاء    المستشار الألماني الجديد يبدأ أول جولة خارجية بزيارة فرنسا    البابا تواضروس: الأم تريزا ومجدي يعقوب شخصيات بنت جسور المحبة بالفعل وليس الكلام    «مستقبل التربية واعداد المعلم» في مؤتمر بجامعة جنوب الوادي    وزير العمل يُعلن بدء التقديم في مِنح مجانية للتدريب على 28 مِهنة بشهادات دولية    «طالبوا ببيعه».. جماهير برشلونة تنتقد أداء نجم الفريق أمام إنتر في دوري أبطال أوروبا    تقارير: بايرن ميونخ يرغب في التعاقد مع باتريك شيك    انخفاض أسعار «البامية والبطاطس والبطيخ» بأسواق المنيا اليوم الأربعاء 7 مايو    زيادة قدرتها الاستيعابية.. رئيس "صرف الإسكندرية يتفقد محطة العامرية- صور    صعود جماعي لمؤشرات البورصة ببداية جلسة اليوم    وزير التعليم العالي يستقبل وزير خارجية جمهورية القمر المتحدة.. تفاصيل    عمال مصر .. أيادٍ كريمة وإرادة لا تعرف المستحيل    قرار هام من المحكمة بشأن المنتجة سارة خليفة وآخرين في قضية تصنيع المخدرات    الداخلية: ضبط 507 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    ضبط 49.2 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    وزير الري: توظيف أحدث التكنولوجيات للتعامل مع تحديات المياه    رغم مرور 22 عاما على عرضه، فيلم "سهر الليالي" يرفع شعار "كامل العدد" بالسينما اليوم    غداً.. صناع فيلم «نجوم الساحل» ضيوف منى الشاذلي    روجينا تهنئ رنا رئيس بزفافها: "أحلى عروسة وأحلى أم عروسة"    مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يفتح باب التقديم لمشاريع "ملتقى القاهرة السينمائي"    مخرج «لام شمسية» يكشف السبب وراء اختلاف أسماء الحلقة 14 وتأخر عرض الأخيرة    وائل غنيم يعتذر لتركي آل الشيخ ويعلن توبته: «ظلمت نفسي وسأعيد الحقوق لأصحابها»    هل انكشاف أسفل الظهر وجزء من العورة يبطل الصلاة؟.. الإفتاء توضح    شقيقي عاجز عن دفع مصاريف مدارس أولاده فهل يجوز دفعها من زكاة مالي؟.. عالم أزهري يجيب    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    جامعة بنها: توقيع الكشف الطبي على 80 حالة بمدرسة المكفوفين    صندوق مكافحة وعلاج الإدمان يعلن عن وظائف شاغرة    أحمد سليمان: هناك محاولات ودية لحسم ملف زيزو.. وقد نراه يلعب خارج مصر    الأسباب والأعراض    حظك اليوم.. مواليد هذه الأبراج «شباب دائم» لا تظهر عليهم الشيخوخة هل أنت من بينهم؟    كندة علوش: تكشف «رد فعلها في حال تعرضها لموقف خيانة في الواقع»    قانون الإيجار القديم أمام البرلمان.. الحكم الدستوري لا يحرر العلاقة بل ينظمها بعد عقود من الظلم    أسامة ربيع: توفير الإمكانيات لتجهيز مقرات «الرعاية الصحية» بمواقع قناة السويس    الأزهر يصدر دليلًا إرشاديًا حول الأضحية.. 16 معلومة شرعية لا غنى عنها في عيد الأضحى    مصيرهم مش بإيديهم| موقف منتخب مصر للشباب من التأهل لربع نهائي أمم أفريقيا    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    عاجل- مصر وقطر تؤكدان استمرار جهود الوساطة في غزة لوقف المأساة الإنسانية    بيدري منتقدا الحكم بعد توديع الأبطال: ليست المرة الأولى!    ما حكم إخراج المزكى زكاته على مَن ينفق عليهم؟.. دار الإفتاء تجيب    ترامب: لا يمكن لإيران أن تمتلك أسلحة نووية ولن يبقى أمامنا خيار إذا سارت في طريق آخر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرية أرحب

له أكثر من وجه وأكثر من تحول جسدى.. حين تراه سائرًا بقامة ممشوقة ووجه متورد مرتديًا ملابس نظيفة ومنسقاً شعره ب«الچيل» فهو عائد لتوه من عند أهله بعد أنه غاب قليلاً عن منطقة وسط البلد.. وعندما تصادفه بملابس رثة وظهر محنىّ وذراعه اليمنى مقوسة فى اتجاه صدره ويسراه ملتصقة بجانبه الأيسر لا تتحرك.. فهو فى فترات عمله القليلة حيث يمشى بين الترابيزات ثم يقف بين المجموعات الجالسة يتسول جنيهًا بحروف مبهمة.. هو لا يلح فى سؤاله لكن يملك القدرة على جعل كل جسده يرتعش وعضلات وجهه تتمسكن حتى تود جيوبك أن تقذف بكل ما فيها إليه.
منذ سنوات ليست بعيدة عرفته وأنا أعد فيلمًا عن أطفال الشوارع وكان فى الثامنة عشرة من عمره آنذاك، هو ذكى ولماح وأمين، ولا يتردد زبائن المقهى فى أن يرسلوه لشراء سجائرهم وأطعمتهم فيلبى بسرعة ويعود بالباقى كاملاً وهو يناولهم ما طلبوه دون انتظار للإكرامية.. هو بخلاف شلته من أولاد الشوارع له أهل وإخوة كثيرون رأينا بعضهم كثيرًا يبحثون عنه ويأخذونه قسرًا إلى بيتهم لكنه سرعان ما يعود، رافضًا الإقامة بينهم بدعوى أنه يحب الحرية ولا يحتمل قسوة والديه وإخوته عليه.. فى رأيى أنهم يفهمون الحرية بمعنى أرحب مما نفهمه عنها، ودليلى على ذلك أن زوجته الثانية (وهى طفلة شارع أيضاً) التى تزوجها بالشارع وبدون وثائق رسمية بل بمجرد ورقة كتباها وشهدا عليها– كما قال لى وأشك كثيرًا فى هذه المعلومة.. هو وزوجته كانا يفترشان الرصيف بمجرد ملاءة خفيفة فى الصيف وينامان حتى الصباح دونما خوف أو قلق..
 حتى وهى حامل فى شهرها الثامن وبطنها ممتد أمامها كرقبة الإبريق كانت تجاوره فى النوم غير آبهة بالتغيرات المناخية أو مطاردات الشرطة أو حتى بالمياه القذرة التى قد يلقيها السكان عليهما لأن وجودهما أسفل العمارة يشوه المنظر الحضارى لوسط البلد فى رأيهم..
ورغم أن إحدى الجمعيات الأهلية عطفت عليها واستضافتها فى مقرها وأطعمتها ومنحتها ملابس جديدة وأجبرتها على الاستحمام وتركتها فى غرفة بها سرير تتقاسمه مع فتاة أخرى.. كانت زوجته تستحم وتغير ملابسها وتأكل الوجبات الثلاث وتستقطع منها أجزاء لزوجها ثم تغافل مسؤولى الدار وتقفز من فوق السور ليلاً وهى بحالتها هذه لتنام على الرصيف.. وعندما سألتها مندهشًا عن السبب، قالت لى بأسى إن الجدران تخنقها وتجعلها لا تستطيع النوم فبمجرد قفل الأبواب عليها تحس أن الحوائط ستطبق على صدرها، وأنها لن تخرج حية من هذا المكان.
لم يقدر للفيلم الذى أُعده الاكتمال عقب القبض على التوربينى والمطاردة الشرسة لأولاد الشوارع فى كل مكان، والذين كان من بينهم بعض الأولاد الذين حددت لهم أدوارًا فى السيناريو.. وقررت الاستفادة بالمادة ووضعتها بالفعل داخل روايتى «تغريدة البجعة» بعد إعادة بناء الأحداث.
بعد صدور الرواية التى لاقت قبولاً حسنًا ولفتت الأنظار إليها وإليه.. تم عمل عدة تحقيقات عنه وظهر فى أكثر من برنامج تليفزيونى لعل أهمها برنامج «البيت بيتك» وبرنامج «العاشرة مساء».. وأذكر أنه قبل أن يلتقى به طاقم برنامج العاشرة مساءً سألنى: أقول لهم إيه؟.. أجبته: قول حكايتك بالتفصيل. لكنه أكمل أسئلته وهو شارد: تفتكر أطلب منهم إيه؟.. قلت له: قل لهم يطلبولك شقة من المحافظ بدل النوم على الرصيف. فزع جدًا وبان على وجهه الضيق وقال بسرعة: لأ.. لحسن فعلاً يجيبوهالى..! قالها وكأننى اقترحت عليه أن يطلب منهم سجنًا.
لى طُرف كثيرة معه.. منها أنه اشترى جهاز موبايل بعد أن ادخر ثمنه لأشهر طويلة مع أحد أصحاب ورش إصلاح السيارات بالشارع.. أراه لى وهو سعيد ثم أعطانى رقمه وحلفنى بألا أعطى رقمه لأحد (تمامًا ككبار الفنانين الذين يتفضلون علينا بأرقامهم).. وهو يطلعنى على إمكانياته لمح بعينى الصقر شلة من الأجانب تجلس على المقهى، خطف الموبايل من يدى ودسه فى جيبه وأدار لى ظهره ثم قوسه وتحرك ببطء تجاههم.. وعرج بقدمه متخذًا سمات المتسول.. وصل إليهم ووقف قبالتهم وظل يشير إليهم بيده السليمة تجاه فمه المفتوح بما معناه أنه يريد أن يأكل.. قررت مداعبته فأخرجت محمولى واتصلت به.. رنتى وصلت إليه فى توقيت مذهل ويد السيدة الأجنبية ممتدة تجاهه بورقة من فئة الدولار.. توالت الرنات فانزعج جدًا وأراد إسكات المحمول فمد يده المفترض أنها معاقة لجذب الجهاز من بنطلونه وهنا انكشفت حيلته فسحبت السيدة نقودها وأعادتها إلى محفظتها.. تركهم غاضبًا واعتدل جسده وأسرع تجاهى وقال لى بحدة: هو أنا مش قلتلك ما تكلمنيش وأنا فى الشغل!
هو ليس هادئًا على الدوام فعندما تفعل الكُلّة فعلته معه.. يشاكس زملاءه ويناوشهم وهم أيضًا يكونون فى نفس حالته فيشتبكون فى عركة كبيرة.. يخرج منها ووجهه به أكثر من جرح أو ملتهب جدًا لأن أحدهم رشه بالشاى المغلى أو ألقى عليه بزجاجة الكُلّة.. وأحيانًا يأتينا بآثار عضات على رقبته أو أذنه.. وهو لا يؤمن بالأطباء والعيادات الطبية يذهب من فوره إلى أقرب صيدلية.. يمد يده ببعض النقود القليلة التى بحوزته وهو يشير إلى جروحه.. غالبًا ما يعطيه الصيدلى مرهمًا أو كريمًا لا يستخدمه إلا مرة أو مرتين ثم يلقيه.
 والغريب أن جروحه كانت تشفى بلا أثر يذكر رغم القذارة التى يعيش وسطها.. أنجبت زوجته طفلة وتغيرت أهداف تسوله إلى طلب نقود لكى يشترى لبن أطفال أو حفاضات سمع عنها وأنا متأكد أنه لن يستعملها ولن يشتريها.. طبعًا لم يستخرج للمولود شهادة ميلاد وإن ظل يقسم لى بأنه سيستخرجها وسيعلم الطفلة ولن يدعها تشم «الكُلّة» بتاتًا.. وكعادة زوجاته أو رفيقاته فى الاختفاء بلا أثر.. اختفت زوجته بطفلتها وهو لا يكف عن سرد قصص كثيرة لاختفائها.. «خطفوها عيال عن منطقة أخرى وباعوا البنت لأحد المستشفيات» أو «الحكومة حبستها ودخلوا الطفلة الملجأ أو العصابات ضربوها بالرصاص وهى بتهرب منهم فى هضبة الهرم».. كأنه يخشى أن يقول إنها ملته وملت عيشته المهببة.
بعد فرار الزوجة التقط كلبًا هزيلاً فى شهوره الأولى.. وسار الكلب رفيقه الدائم الذى يتبعه فى كل الأمكنة.. يسير خلفه أينما سار.. ويرقد بين قدميه عند جلوسه وإن استيقظ الكلب ولم يجده هام على وجهه فى كل مكان بحثًا عنه.. والغريب أن الكلب تعرف على كل عاداته لدرجة أنه كان يترك صاحبه نائمًا فى الصباح وينقب فى سلة مهملات المقهى بحثًا عن الأكياس النايلون البيضاء التى اعتاد صاحبه وضع الكُلّة بها.. عندما يجدها الكلب يسحبها بفمه بسرعة ويعود إلى صديقه ليضع الكيس بجواره.. يستيقظ صديقه ويجد الكيس جاهزًا فيقلب علبة الكُلّة بعصاه ويضع قطرات فى الكيس ثم يبدأ يومه.
من طرائفه الأخيرة معى أنه وجدنى يومًا جالسًا حزينًا على المقهى بعد أن سمعت خبر وفاة المفكر الجميل د.محمد السيد سعيد.. دار حولى وتجنب أن يكلمنى.. ثم عاد بعد قليل وسألنى باهتمام: أنا عارف إنت زعلان ليه.
قلت له بلامبالاة: ليه يا فالح؟
قال بسرعة: عشان مبتكتبش الأيام دى.
نظرت إليه ولم أرد رغم إعجابى بتصوره أن حزنى واكتئابى راجع إلى توقفى عن الكتابة، اقترب أكثر وقال لى بود: مادام إنت زعلان كده ما تيجى نعمل بجعة جديدة.
ضحكت بشدة، مما أدهشه جدًا، وأعجبتنى فكرة أنه يظن أنه شاركنى فى كتابة الرواية السابقة ويريد مشاركتى فى الرواية الجديدة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.