كنت منذ فترة أنادى ع العيال فى البيت فيحضروا إلىّ جرى.. وكنت أتباهى بينى وبين نفسى بحالة الطاعة والاستجابة السريعة منهم.. وساعات كنت أتعمد أن أناديهم وأنا مش عايزة حاجة عشان ييجوا جرى.. فألقى بأى أمر أهبل واقعد اترقص فى الأودة بعد ما يخرجوا وأردد لنفسى عبارة « كونترول.. ظبط وربط.. ممشية العيال ع العجين».. وهذا من باب إثباتى لنفسى إنى مش أعيل منهم ولا حاجة.. • بعد فترة بدأت أناديهم فيتلكعوا شوية فى الحضور.. فألمع عينىَّ وأبرقلهم قوى.. وبتقوموش تتنفضوا تيجوا ليه لما أنده؟؟.. إنتوا مش عارفين الحديث الشريف اللى بيقول أمك ثم أمك ثم أمك؟.. فيبدأوا فى الاعتذار ويمطرونى بالقبلات وأنا أتظاهر بالتعفف، بينما فى داخلى بسوق فيها من باب إنى ما بقيتش أعرف أستفرد بيهم وأبوسهم عشان كبروا قال!! • ثم فترة تالية وبدأت أسمع ..أيوه.. حاضر.. طيب.. لحظة.. هسة.. وهلة.. هنيهة.. فأتحرك بهدوء وخفة مثل القطط لأتلصص عليهم وكلى تحفز إنى حقفشهم بيعملوا مصيبة.. فأجد كل واحد فيهم فاتح اللاب توب ولازق بوزه فيه بمنتهى التركيز والاهتمام وقد خرجت ألسنتهم من أفواههم علامة على استدعاء الذكاء لحل معضلة ما أو استكشاف شىء خطير.. فأقتحم الغرفة فجأة متخذة وضع مستر إكس صارخة فيهم «بتعملوا إيه يا كلاب؟..».. متوقعة أن ينتفضوا فى ذعر وينقلبوا على ظهورهم من هول الخضة.. وأقف لحظة لأستمتع بوقع ما فعلت.. فالمفروض أننى تسببت توا فى قطع خَلَفْهم من باب المساهمة فى حل المشكلة السكانية.. ولكنى ما ألبث أن أصاب بخيبة أمل وفى الواقع بنكبس من رد فعلهم.. لأنهم يرفعون رؤوسهم ناظرين إلىّ فى برود متأملين الوضع البوليسى الذى غالبا ما أكون قد ثِبت عليه.. ولا أستبعد أن يكون سؤالا حقيرا قد تبادر إلى أذهانهم: «هى ماما مالها.. بتقلد كرومبو ليه كده؟..».. ولأنى واثقة من تربيتى ليهم ومن إنهم مؤدبين، فأنا أستبعد أن يكون السؤال: «هى الوليه دى اتجننت وللا إيه؟». • بدأت أشعر أنى مقصرة فى حقهم.. وأننى أسرفت فى الاستغراق فى العمل لدرجة صرفتهم عنى.. وأننى لم أعد الأم الحنون الرءوم التى يتوق أولادها للالتفاف حولها والشعور بدفئها.. وبدأت أعانى من هلاوس سمعية بصرية تصور لى حرمان أولادى منى لدرجة أنهم ينخرطون فى أنشطة مشبوهة وأتخيلهم بيشموا كوكايين من جوه اللاب توب.. إزاى؟.. مش قضية بقى.. ما هى هلاوس.. وإنهم من كتر الحرمان حايهربوا م البيت وينضموا لشعب الظل اللى هو أطفال الشوارع.. صحيح إنهم جحوشة وطوال وعراض لكن ما يمنعش.. فوضعت خطة إصلاح.. • قررت أن أصاحبهم وأن أحول البيت إلى جنة أموية وألعب دور شادية وفاتن حمامة وفردوس محمد وعبدالحميد وماما نونا وكل الأمهات.. ياللا ياولاد أنا عملتلكوا بامية حتاكلوا صوابعكوا وراها.. طب بعدين بعدين.. طب النهاردة بقى هامبورجر وبطاطس محمرة وكاتشب ( أكل عجيب مالوش معنى بس هو ده أكلهم اليومين دول).. طيب لحظة.. هسة.. هنيهة.. وهلة.. ياللا نخرج نروح السيما نشوف الفيلم الجديد قبل ما ينضرب بكره وينزل ع النت.. وهلة.. لحظة.. فمتوثانية. • مفيش فايدة.. وأخيرا قررت أن أقتحم عليهم عالمهم لأصارع ذلك العدو الخفى اللى لطش منى العيال.. بتعملوا إيه بقى.. ورونى وعلمونى.. هنا فقط وصل صوتى إلى أسماعهم.. هنا فقط التفتوا لى ورأونى.. الظاهر إنى طوال الفترة الماضية كنت شفافة.. وأجلسونى بينهم وفتحوا لى الفيس بوك.. • استهيفتهم جدا جدا فى البداية.. وده كلام ده؟.. إيه ضياع الوقت والهيافة دى؟.. هو ده اللى دافسين وشكوا فيه طول اليوم لما نزلتلكوا زلاليم؟؟.. فين المذاكرة؟.. آه دول اتخرجوا.. طب فين القراءة للجميع؟.. فين الرياضة؟.. فين الرحلات؟.. فين وفين وفين.. جذبونى من يدى واستهدى بالله واقعدى بس.. افتحى وشوفى.. • وفتحت.. فتحت أبواب العالم الجديد.. دنيا أخرى وكون مختلف.. فيه كل الأشياء.. فيه عيال هايفة مش لاقية حاجة تعملها وقاعدة ملزوقة معظم ساعات اليوم لا تدرى ما تفعل بوقتها.. فيبحثون عن بعضهم البعض ليرغوا ويهلفطوا ويهجصوا وينكتوا ويوقعوا بعض فى شر أعمالهم.. وفيه نساء شرحه.. الراجل بيخرج من هنا وبما إنها مكتومة وطالع زرابينها فهى بتدور على أصحابها عشان تتفش معاهم ويطلعوا لبعض صور الدراسة والعائلة ويقعدوا يفكروا بعض بذكريات الطفولة والمراهقة والحرية التى صدر الحكم بإعدامها مع التوقيع أمام الشيخ أبوجبة.. وفيه بنات بتعلق صبيان وصبيان بيوقعوا بنات.. وكبار بيلعبوا على الاتنين. • لكن.. مع دخولى إلى هذا العالم.. ولكونى أحمل اسما معروفا.. تفتحت لى أبواب أخرى.. وجدت رسائل الترحيب تصلنى من عدد ضخم من أعضاء لا أعرفهم ولكنهم (والحمد لله على الشهرة) يعرفوننى.. وجدت أيادى كثيرة تمتد إلىّ من داخل هذا العالم لتساعدنى على التعرف عليه.. وجدت نوعا من البشر بالقطع يختلفون عمن أقابلهم فى الحياة اليومية.. فهم على مختلف أعمارهم ومراكزهم الاجتماعية يتوحدون على فكرة أن هذا الفيس بوك هو المجتمع الجديد الذى لا يجدونه فى الواقع.. والذى تتحقق فيه مُثل وغايات يصعب أن تجدها حولك.. وجدتهم يفكرون ويناقشون ويعبرون ويصرخون ويبدعون ويحطمون التابوهات ويتحررون من كل القيود الكاذبة التى حولهم.. سياسية كانت أو مجتمعية أو دينية.. وجدتهم يصنعون عالما خاصا أشبه باليوتوبيا.. فيه يعبر الإنسان عن رأيه بمنتهى الحرية.. والأدب أيضا.. وبالرغم من أن كل واحد فيهم بالقطع له آخر يختلف معه تماما فى الرؤية والمنطق والتحليل.. إلا أنه وللعجب العجاب يفعل ذلك بمنتهى التحضر.. فالمجال مجال الكل.. والأرض أرض الكل.. والمساحة مساحة الكل.. كل واحد حر.. وحريته تنتهى عن بداية حرية الآخر.. ترى ذلك واضحا فى الجروبات التى ينشئونها.. هذا الجروب مع الفكرة الفلانية وذلك ضد.. وهذا له أعضاؤه الذين يدافعون عن فكره.. والآخر كذلك.. لا يهاجم ولا يتهجم أحدهم على الآخر.. وإن حدث ففى حدود الجدل والحوار الذى يشترك فيه الكل ويعلق عليه أو يمتنع عنه ويعطى إشارة سلبية.. فى هذا العالم ستجد النوستالجيا تلعب دورا مهما.. هناك حالة عامة من الحنين إلى الماضى السعيد.. تراها فى ميل الشباب إلى استعادة مصر بفنونها وآدابها المزدهرة.. فترى عبدالغنى السيد وأسمهان وكارم محمود يعودون إلى الحياة.. وترى كتب الأدباء، وقد نشأت جروبات لتناقشها، وتعيدها للذاكرة وتغذى بها روح الشباب الذى لم يكن قد تعرف عليها.. ستجد حلقات بحث ودراسة.. وتتعرف على مواهب جديدة فى كل المجالات.. وستجد بشرا من مختلف الأعمار، لديهم وقت وطاقة وعزيمة جبارة تبحث عن مشروع.. على سبيل المثال. • عندما شعرت بهذا فتحت باب النقاش حول القرصنة ووجهت نداء لشباب الفيس بوك لنشر الوعى ومقاومة اغتيال الفن المصرى.. فى لحظات كانت مجموعات من الشباب قد كونت جروبا ضخما للقضاء على القرصنة.. وشرعت أسلحتها للمقاومة بمنتهى التصميم والتركيز والإصرار.. يواصلون العمل بالليل وبالنهار ويسلمون بعضهم البعض النبطشيات.. يهاجمون المنتديات الحرامية ويبحثون فى القانون ويخترعون طرقا ويجدون حلولا.. ويقومون بما عجزت عنه الأجهزة البليدة المتنبلة العاجزة.. هذا مجرد مَثل واحد من مئات الأمثلة.. افتحوا وشوفوا بنفسكم شباب هذا البلد الذى تهدرون طاقته فى الفراغ واليأس والروتين والفساد.. ملخص القول. • إذا كنت عايز تعرف تكلم مين فى شعب مصر.. كلم شعب الفيس بوك.. هما دول الدنيا اللى جاية.. أما الواقع اللايص المتدهول الأهطل الذى نعيشه فقد آن الأوان للردم عليه. [email protected] [email protected]