كان من المستحيل أن أترك فرصة لزيارة السد العالى أنعش فيها ذاكرتى بالمعلومات عنه. عشت لحظات فخر مع كل كلمة يقولها المرشد السياحى. ورغم أن المعلومات التى قالها معروفة للكافة إلا أنها لابد أن تستوقفك حين تعاد على مسامعك وسط ما تمر به مصر اليوم. فالسد العالى هو فى رأيى مرادف للتحدى. فقد بنته مصر بعد أن رفض البنك الدولى تمويله. بُنى بمساعدات وخبرات روسية وبسواعد وعقول بل وقلوب مصرية. الصخور التى تم نقلها لبناء السد تعادل سبع عشرة مرة تلك التى استخدمت فى بناء الهرم الأكبر. واشترك فى بنائه أكثر من 34 ألف عامل ومهندس مصرى، دفع بعضهم حياته أثناء العمل. توقيت زيارتى للسد جاء بالمصادفة فى خضم المأساة التى تعيشها باكستان حيث دمرت الفيضانات مناطق بأكملها وشردت أكثر من 18 مليون مواطن، فضلا عن كارثة اقتصادية لا حدود لها. رحت أحمد الله وأتذكر الكتابات التى قرأتها فى طفولتى عن القرى المصرية التى كانت تغرق- قبل بناء السد- فى فيضان نهر النيل فى بعض الأعوام والقحط والجفاف الذى كان يحل بمصر فى أعوام أخرى. أما الكهرباء التى يولدها السد العالى، فصحيح أنها لم تعد اليوم تمثل أكثر من 10% من الكهرباء التى تستهلكها مصر إلا أنها تظل الكهرباء الوحيدة النظيفة بيئيا. خرجت بعد زيارة السد العالى بمشاعر كثيرة متضاربة. كنت أشعر بالعزة والحزن فى آن معا. فلا يمكن لمصرى أن يشهد هذا الصرح الضخم ولا يشعر بالفخر. فالسد العالى هو عنوان للإرادة المصرية الجبارة حين يتم شحذها فتتخطى الصعاب ولا تعرف مستحيلا. عرفنا تلك الإرادة الحديدية فى بناء السد وفى حرب الاستنزاف وفى حرب أكتوبر، وفى لحظات أخرى كثيرة فى تاريخنا القديم والحديث. أما حزنى فقد تحول إلى تساؤلات. فالشعب الذى يبنى السد العالى فى تلك الظروف الصعبة لا يمكن أن يستعصى عليه شىء. ماذا حدث إذن لمصر والمصريين؟ رحت أتأمل حالنا وأقارن فصارت لدىّ قناعة بأن المواطن المصرى قادر على العطاء بلا حدود ولكن بشروط. أول هذه الشروط، أن يقتنع بأن هناك رؤية واضحة لذلك الذى نريده بالضبط ويلمس بنفسه وجود استراتيجية مدروسة لتنفيذ تلك الرؤية. وثانيها أن يتم استدعاؤه لمشروع يجده أكبر من ذاته ويمثل تحديا بالنسبة له. والمواطن المصرى ذكى لا يمكن لأحد أن يضحك عليه. فهو بفطرته يستطيع التفرقة بين الغث والثمين ويعرف تماما متى تكون هناك جدية وإخلاص فى الطرح ومتى يكون الأمر مجرد طنطنة. فى طريق عودتى للقاهرة قرأت الصحف فوجدت هذا المصرى نفسه صاحب تلك الإرادة الجبارة قد بات يحيطه الهم والغضب لغياب الحد الأدنى من الخدمات من مياه وكهرباء وخبز. أما الحزب الوطنى بل والمعارضة فكانوا فى واد آخر تماما، يتحدثون عن الدستور والانتخابات والضمانات. انشغل الساسة، حكومة ومعارضة، بالمدى القصير دون تضفيرها فى إطار رؤية شاملة لمصر ومستقبلها. فانصرف عنهم الناس وغرقوا فى حياتهم الخاصة ومشاكلها اليومية المتراكمة وسط كل هذه الفوضى. انسحب المصريون داخل أنفسهم وراح يتملكهم الغضب تارة واليأس وفقدان الثقة فى الذات تارة أخرى. ويا مواطنى مصر الكرام، خذوها منى نصيحة، كلما اقترب منكم الشعور بفقدان الثقة بالذات الوطنية تذكروا السد العالى بالذات فهو عنوان الإرادة المصرية إذا تجلت.