يروى بيومى كيف كان القائمون على العمل مخلصين ومهتمين بأحوال العاملين وتسهيل حياة العاملين إلى أقصى درجة، وكان العامل أو المهندس فى بناء السد العالى يتقاضى راتبه مرة ونصف لدرجة أن 80% منهم ادخروا نفقات الزواج وتزوجوا بعد عام من العمل. ابتسم كمال بيومى وكأنه يعود بالتاريخ إلى الخلف عندما سألناه عن كيفية اختياره للعمل فى السد.. ويحكى: «عارضت الفكرة فى البداية عندما عرضتها علىّ الشركة لأنى لم أتوقع أن يكون العمل عظيماً ومنظماً بهذا الحجم، ولكن بمجرد وصولى هناك وجدت أن العمل بهذا المشروع فرصة لا تحدث إلا مرة فى العمر». فى الأربعينيات من عمره..بدأ بيومى عمله كمهندس وردية فى المرحلة الثانية من بناء السد العالى عام 1964 إلى أن أصبح مدير أعمال فى محطة الكهرباء بالسد العالى، ثم مدير أعمال شركة مصر فى أسوان والسد العالى. وعن ظروف العمل اليومية فى بناء السد العالى يقول :«كان اليوم يبدأ بالسفر 20 كم من أسوان إلى السد العالى، وفى بداية العمل كنا نجتمع مع نظرائنا من المهندسين الروس لإجراء مباحثات حول البرنامج اليومى للعمل وتحديد خطواته ثم ننزل إلى الموقع ونقوم بتوزيع العمل على المهندسين لثلاث ورديات، كل وردية لمدة 8 ساعات». وعن تعامل المهندسين المصريين مع الخبراء الروس، يؤكد بيومى أنه كانت لديهم تعليمات بعدم الحديث مع الروس فى الموضوعات السياسية لأنهم ربما يحاولون نشر الشيوعية، ولهذا «لم نتحدث معهم فى أى شىء سياسى إلا بعد نكسة 67، وظلت علاقاتنا بهم جيدة واستمرت حتى بعد إنشاء السد العالى.. الذى تفانوا فى بنائه وكأنه فى بلادهم». ويرى بيومى أنه على الرغم من توافر مهارات مصرية فى العديد من المجالات حينها إلا أن العمالة الفنية السوفييتية كان لها دور كبير فى مساعدة العمال المصريين وتدريبهم على العمل فى مشروع ضخم لم يشاركوا فى مثله سابقاً، وكان العمل فى السد العالى يحتاج الى مهارات فى مجالات عديدة منها الميكانيكا، والكهرباء، والطاقة، والتصميم. أما المخاطر التى تعرض لها بناة السد وأودت بحياة بعضهم، فيعتبرها المهندس كمال بيومى «لذة العمل».. خاصة ارتفاع درجة الحرارة الذى كان المشكلة الرئيسية: «جاء وقت وبدأ العاملون من جميع الطبقات فى التساقط، مما أثار قلق الجميع، وكل ما كان يدور بأذهاننا هو: من الذى عليه الدور فى الموت، وجاء وزير الصحة يرافقه طقم من الأطباء ووجدوا أن الحرارة العالية مع الجهد المستمر هى التى أدت الى موت البعض لذلك قرروا صرف أقراص ملح..وبعدها توقفت حالات الوفاة». ويضيف بيومى «كان للحرارة الشديدة تأثير على عمليات بناء السد العالى نفسه، عندما تسببت أكثر من مرة فى تجمد الخرسانة داخل المواسير وتعطيل العمل.. فضلاً عن إصابات العاملين وموت الكثير نتيجة الردم بعد التفجيرات التى كانت تتم لفتح ممرات العمل، أو لاستخدام الردم لسد جسم السد». يفخر بيومى بمشاركته فى ملحمة بناء السد العالى ويعرب عن حزنه لجهل الأجيال الجديدة بالسد وفوائده.. «الجيل الحالى لا يقدر فائدة السد فى منع الجفاف والفيضانات، فضلا عن توفير الكهرباء واستصلاح مليون و700 الف فدان بالاضافة إلى أن نصيب مصر من مياه النيل كان 45 مليار متر مكعب ونصيب السودان 4 مليارات متر مكعب وبعد بناء السد أصبح نصيب مصر 55.5 مليار، ونصيب السودان 18.5 مليار». وتختلف قصة المهندس سعد نصار، أحد بناة السد العالى، عن المهندس كمال بيومى حيث كلف «نصار» بالعمل فى السد العالى فور تخرجه، ولكنه يتفق مع بيومى فى أن الجميع كان يعمل بروح واحدة وكأسرة واحدة. وبحثاً عن أسرته الصغيرة.. اقترب المهندس نصار من أحداث فيلم «الحقيقة العارية» حينما جسد الفنان إيهاب نافع دور مهندس فى السد العالى بأسوان وأراد الزواج من الفنانة ماجدة التى كانت تجسد شخصية مرشدة سياحية، ولكن قصة «نصار» اختلفت قليلاً عن الفيلم، فعندما تخرج عام 1960 فى كلية الهندسة جامعة الإسكندرية ذهب فى إحدى الإجازات مع أصدقائه إلى أسوان وأبدى رغبته فى العمل بالمحافظة التى أحبها، وبالفعل تحقق حلمه حينما تم تكليفه فى شهر أكتوبر عام 1960 بالعمل كمهندس بالسد العالى حتى يناير 1970، ليتزوج ابنة أحد مهندسى السد العالى، ولكنها اختلفت عن الفنانة «ماجدة»، حيث كانت طالبة بمدرسة أسوان الثانوية..ويتحدث نصار عن رحلته «كنت أمر كل يوم على الخزان لأذهب إلى الغرب..وتذهب هى إلى الشرق». ويسترجع نصار ذكرياته مع السد العالى: «عندما سافرت أول مرة إلى أسوان كان معى أحد الأصدقاء الذى ظل يبكى فى القطار لأنه يغيب عن منزله لأول مرة، ولكن كان لنا شرف تنفيذ هذا المشروع، وشعورنا بهذه المسؤولية دفعنا إلى بذل الجهد بالتعاون مع الجانب الروسى». عمل المهندس «نصار» بالمرحلة الأولى والثانية ولكن عمله كان مرتبطاً أكثر بالأنفاق التى كانت تعد، كما يقول، من أخطر الأعمال، مشيراً إلى أن موقع الأنفاق كان من أكثر المواقع التى شهدت حوادث فى المشروع..وفى كثير من الأوقات تساقطت الصخور على العاملين والمهندسين. ونظراً للدور الذى قام به العديد من بناة السد العالى الذى عادت فائدته على حياة المصريين عبر توفير الكهرباء التى دخلت كل بيت فى مصر بما فى ذلك الريف، وتخزين المياه فى بحيرة السد العالى، فرأى المهندس «سعد نصار» أن ذلك الحصاد لابد أن يشعر به المشاركون فى هذا الإنجاز، فقرر إنشاء «جمعية بناة السد العالى» لتضم عدداً من مهندسى السد العالى وتكون منبراً يعبر عن إنجازاتهم على الرغم من عدم حصولهم على أى تكريم سوى أوسمة الدولة، إذ حصل المهندس كمال بيومى على وسام الجمهورية من الطبقة الثانية من الرئيس جمال عبد الناصر، كما حصل المهندس سعد نصار، على وسام الجمهورية من الطبقة الثانية أيضاً من الرئيس عبدالناصر. وأشار نصار إلى أن «بناة السد العالى» سيساهمون فى الاحتفالية التى تقام يوم 17 يناير الجارى بأسوان، والتى يشارك فيها وزير الموارد المائية، ووزير الكهرباء ومحافظ أسوان، والسفير الروسى، وتتضمن مراسم الاحتفال شعلة تتحرك من السد العالى هابطة إلى أسوان، بالإضافة إلى افتتاح معرض للصور عن السد العالى.