الدستور المثالى هو الذى يكون محصلة توافق مجتمعى وسياسى فى لحظة تاريخية محددة، والدستور غير المثالى هو الذى يراعى هذا التوافق دون أن يشارك المجتمع فى كتابته، والاثنان أفضل من حالة «لا دستور» والركض فى المكان التى نعيشها الآن. دستور مصر الجديدة الذى يأمل المصريون فى كتابته سواء عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة من البرلمان أو جمعية تأسيسية ينتخبها الشعب سيحتاج إلى وقت أطول ومهارة صناعة التوافق، ودستور مصر القديمة غير المثالى المتمثل فى دستور 71 استورد مواد كثيرة عظيمة من دساتير البلدان الديمقراطية، لم يطبق معظمها على أرض الواقع. ولأن مصر حدثت فيها ثورة لم تنجح فى تقديم قيادة سياسية متوافق عليها تقود البلاد، فإن كثيراً ممن تحدثوا باسمها اكتفوا بتفكيك القديم حتى لو كان مرتبطاً بالدولة لا النظام، فاعتبروا إسقاط الدستور هو أسمى الأهداف حتى لو كانت مشكلته ليست فى النصوص، إنما فى التطبيق، وحتى لو لم تكن هناك رؤية أن الإسقاط دون تقديم البديل يعنى استحواذ الطرف الأقوى الإسلامى فى هذه الحالة على طرح البديل. المدهش أن الاستفتاء الذى خرجت نتيجته ب77% لصالح تعديل دستور 71 لم يعمل به، وأخرج المجلس العسكرى إعلاناً دستورياً باهتاً ومرتبكاً تضمن 63 مادة من بينها المواد الثمانى المعدلة ليسقط عملياً دستور 71، رغم أن الاستفتاء كان على تعديله لا إسقاطه. إن بناء مشروع سياسى ودستورى من الصفر مسؤول عنه المجلس العسكرى، الذى لم يقدم شيئاً يذكر من أجل تفكيك منظومة «مبارك» القديمة، فى حين أنه أسقط دستور الدولة المدنية الذى كتبه فقهاء دستوريون كبار ولا يمكن اعتباره دستور مبارك. المدهش أن الأدوار التى كان يجب أن يلعبها المجلس العسكرى تخلى عنها، وأهمها الحفاظ على دستور الدولة ومبادئ النظام الجمهورى الذى أقامه، فى حين أن الأدوار التى كان يجب عليه القيام بها ومنها تفكيك منظومة مبارك القديمة لم يمسها، إلا على مستوى تغيير محدود لبعض الأشخاص، وجاء حزب الأغلبية واستمر على نفس الطريقة: تغيير أشخاص أو المطالبة بتغيير حكومة دون أى مساس بالمنظومة القديمة. مصر لن تخترع العجلة من جديد، فهناك بلاد مثل بولندا وعشرات غيرها عدلت من دستورها القديم، وأجرت فى ظله الانتخابات إلى أن حانت الفرصة ووضعت دستوراً جديداً وظلت تحكم بدستور قديم معدل من 1989 حتى 1997، فأسوأ ما فى خطاب بعض التيارات الثورية أنه احترف الهدم، وفشل فى البناء، والمعضلة أن الرحلة بين الاثنين تحدث فراغاً ملأه فى كل مرة التيار الإسلامى. مصر لديها تقاليد دستورية وقانونية منذ أكثر من قرن، وكان أجدر بالتيارات المدنية أن تتصالح مع تراثها الدستورى، بدلاً من هدمه لصالح حالة من الفراغ والتشتت التى نعيشها الآن. قد تكون العودة إلى دستور 71 «معدل» مخرجاً، حتى تتوافق القوى السياسية وتنضج وتعرف المعنى القانونى والسياسى للدستور التوافقى، وقد تكون إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية على أسس جديدة مخرجاً آخر من الأزمة الحالية كطريق آخر لكتابة هذا الدستور التوافقى، حتى لو استلهمت الأبواب الأربعة الأولى من دستور 71. [email protected]