كيف ضاع المرتب منك ؟! تردد هذا السؤال ألف مرة في ذهن سعيد المصري وهو جالس على كرسيه منزويا في ركن الصالة المظلمة، وكان يضع رأسه بين كفيه وكأن رقبته عجزت عن حملها .. كيف ضاع مرتب الشهر كله؟ كيف سيدفع إيجار الشقة؟ كيف سيرسل المال لوالدته المريضة بالصعيد لكي تشتري دواء الضغط الذي وقع في (قرعته) عندما اتفق هو وأخوته على تقسيم روشتة العلاج الشهري لوالدته فيما بينهم، فأخوه الأكبر تحمل تكلفة دواء السكر أما الأصغر فكان نصيبه في دواء الكلى مع أنه الأغلى ثمنا إلا أنه أسعد حالا من أخويه بعمله في السعودية كمبيض محارة بعد حصوله على بكالوريوس التجارة من جامعة القاهرة. كيف سوف يأكل طوال الشهر؟ وإن كان هذا الهم أقل همومه ألما فهو معتاد على البقاء حيا بأقل القليل. هل يمكن أن يذهب لصاحب المحل الذي يعمل به و يطلب منه سلفة؟ ولكنه تذكر الذي حدث مع محمود زميله في المحل عندما طلب نفس طلبه فكان الرد أنا مش فاتح مؤسسه خيريه يا روح ...، وعندما تذكر هذه الجملة استبعد هذا الحل تماما، فهو برغم فقره المدقع مازال يحتفظ بكرامته و يحافظ عليها كلما سنحت له الظروف، ولأجل هذا السبب أيضا استبعد أن يطلب معونة من منى خطيبته "بكلمة شرف" خاصة وهو يحاول أن يترجم هذه الكلمة إلى واقع فعلي منذ خمس سنوات، ولكنه مازال ينتظر تحسن الظروف، وانصلاح أحوال العباد والبلاد ويدعو وراء الإمام كل يوم جمعة بغاية الحرص والإخلاص، اللهم أصلح حال البلاد والعباد فتخرج آمين من جوفه عميقة حارقة! وعند ذلك رن جرس الباب فانتفض كالعادة وارتعش جسمه فهو يؤمن بالمثل المصري (يا قاعدين يكفيكوا شر الجايين) فقام من مقعده، وسار ببطء ناحية الباب وكأن قدماه مشدودتين لجوال من الرمل، فهو يحاول انتزاعهما من الأرض انتزاعا، وأخيرا وصل إلى الباب وعندما فتحه لم يجد أحد ولكنه لم يخرج رأسه من الباب ليرى إن كان هناك أحد على السلم، وكان كل ما فعله أن أغلق الباب بهدوء مره أخرى، فهو يعلم أن طفل الجيران المشاكس يزداد إصرار على إزعاجه إذا سمع صوت الباب يغلق بعنف وهو لا يحب المشاكل، فوالد هذا الطفل أمين شرطة في القسم القريب منهم ويستطيع أن يريه ويسمعه ما لا يرضاه على كرامته السابق ذكرها، وهم علموه أن يمشي جنب الحيط وإذا لزم الأمر يمكن أن يمشي في الحيط نفسه. وعاد إلى كرسيه مرة أخرى، وعلى نفس الهيئة السابقة واستعد لموجة جديدة من الحلول الفاشلة لكي يناقشها مع نفسه وبينما هو يحاول أن يمسك بطرف الخيط إذ به يشعر بيد باردة تمسك بكتفه من الخلف بقوة فارتعش ولكن لم يستطع أن ينطق بكلمة وظل يحاول أن يصرخ، ولكن لسانه رفض التحرك ولكن شعره تحرك رغما عنه، وهب واقفا من هول الرعب الذي كان يشعر به، وهنا سمع صوت يأتيه من خلفه : هل تريد أن تعرف سبب ضياع المرتب؟ فلم يرد وكذلك لم يتحرك فتابع الكائن الواقف خلفه: سبب ضياع المرتب هو أنت .. "أنا" قال مرددا في نفسه "أنا كيف أكون أنا السبب؟"، فتابع الكائن : "عندما رضيت بهذا الجنيهات القليلة، وعندما جبنت أن تطالب بحقك وتدعي أن ذلك من الكياسة، وعندما أفنيت عمرك تبحث بين أكوام القمامة وعندما اعتقدت أن الفقر مقدرا من رب يوم القيامة، عندما رضيت بالذل والهوان من أجل قطعة لحم عفنة على مائدة الذئاب الجبانة، لكل ذلك فأنت الذي أضعت الراتب!"