فى المقالة السابقة نشرتُ مجموعة رسائل للوالى الأموى، قرة بن شريك، الذى كان يحكم مصر ممثلاً للأمويين فى بداية التسعينيات من القرن الهجرى الأول، وقد أثارت هذه (الرسائل) التى بعثها ابن شريك إلى «باسيل» المتولِّى أمير منطقة «أشقوه»، اهتمامَ كثيرٍ من القراء.. وقد هاتفنى صديق (عزيز) مرة أخرى، ليعترض على ما جاء فى المقال! قال ما فحواه إننى اخترت رسائل معينة، بحيث يظهر ابن شريك بمظهر طيب، ولكن هناك رسائل (أخرى) تظهره على غير ذلك.. وإننى نظرت إلى «أشقوه» هذه ، كأنها تمثل عموم مصر، وما هى إلا قرية صغيرة. فلا عبرة بأن جابى الضرائب فيها (مسيحى) يعمل مع المسلمين، والمعروف أن الحكام المسلمين أنهكوا مصر بالجزية، وعذَّبوا الناس للحصول عليها.. هكذا قال. ■ ■ ■ ولأن صديقى العزيز (عزيز) ولا ينزلق مثل كثيرين، فى مهاوى التهليل والغوغائية، فقد رأيتُ لزاماً علىَّ، أن أؤجل اليوم كلامى عن «حياة الناس من واقع البرديات» إلى الأسبوع القادم، كى أرد على ملاحظاته واعتراضاته المهذَّبة، تقديراً لما يجمع بيننا من محبةٍ لا تشوبها الأغراض التى نعرفها عند رواة الخرافات وأساطين الواهين المتوهمين. والحقيقة، فإن هناك بالفعل رسائل (أخرى) لقرة بن شريك، قد يصل عددها إلى المئات، لكنها لا تخرج فى مضمونها العام عن الإطار الذى عبَّرتْ عنه الرسائل المنشورة بمقالة الأسبوع الماضى.. مع مراعاة أن قطع البردى (العربية) قد يصل عدد الباقى منها حالياً، إلى أكثر من مائة ألف ورقة، وتعد رسائل ابن شريك، التى احتفظ بها (باسيل) من أكمل المجموعات البردية. ■ ■ ■ فإذا نظرنا فى رسالة (أخرى) لابن شريك، ظهر لنا أمرٌ طالما استتر عنا.. وملخصه كما يلى: فى العشرين سنة التى سبقت الفتح (الغزو) الإسلامى لمصر، عاشت البلاد أسوأ فترة فى تاريخها الطويل.. ففى هذه المدة القصيرة نسبياً، جاء هرقل بجيوشه التى يقودها «نيقتاس» ليخلع مصر من قبضة الإمبراطور «فوكاس» وما كاد الأمر يستقر بيد هرقل، حتى جاء الفرس فاحتلوا البلاد لمدة عشر سنوات، ثم غلب الروم الفرس فأخرجوهم من الشام ومصر، ودخلت جيوش هرقل ثانيةً. ثم جاء أبشع حاكم فى تاريخ بلادنا «المقوقس» ففعل فى الناس أسوأ الأفعال.. ومن بعد ذلك جاء المسلمون، أو جاء الإسلام، أو جاء الفتح العربى (بالمناسبة: الغزو مؤقت، والفتح هو ما يستقر) فعاشت البلاد قروناً تالية فى سلام، ولم تعد الحروب تُنهكها كما كان الحال قبل مجىء عمرو بن العاص. وكان الحكام والأثرياء قبل مجىء المسلمين، يعاقبون الناس فى مصر بقسوة شديدة، فمن ذلك، أن الروم (المسيحيين) يوم سلموا معسكرهم المسمى حصن بابليون (باب إليون) قطعوا أيدى عشرة آلاف رجل من المصريين اليعاقبة (المونوفيست= أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة= أتباع الكنيسة المرقسية) والذى ذكر ذلك، هم مؤرخو الأقباط لا المسلمين.. ومن مظاهر ذلك، أيضاً، أن أصحاب السلطان كانوا يؤدِّبون الناس (المصريين الفقراء) بلسع العقارب، أو بغمر أطرافهم فى الجير المخلوط بالخل! ولنقرأ الرسالة (البردية) التالية: «بسم الله الرحمن الرحيم، من قرة بن شريك، إلى باسيل صاحب أشقوه. فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو، وأما بعد، فلا أعرف أسوأ من التعذيب بغبار الجير والخل، فالمعذَّبون به لا يُرجى برؤهم (شفاؤهم) ويجعلهم عاجزين عن العمل، ولذلك، آمرك بكتابى هذا، ألا يعذَّب أحدٌ بغبار الجير والخل بعد اليوم، فإذا جاءك كتابى هذا، فأمُرْ جميع أصحاب القرى، ومَنْ هم فى خدمتك من عمالك، ألا يعذِّبوا أحداً بغبار الجير والخل، وإذا علمت بعد هذا، أن أحداً قد عذَّب بهذا الخليط، فسأعاقبك أشدَّ العقوبة، وأُغرمك أثقل الغرامة». ■ ■ ■ وعلينا أن نلاحظ هنا، أن وصف باسيل بعبارة (صاحب أشقوه) هو الوصف المرادف للحاكم أو صاحب المنصب الأعلى فى المكان، بل كان المسلمون يستعملون وصف (صاحب البلد) للدلالة على الملك والإمبراطور، فيقولون مثلا عن فريدريك الثانى إمبراطور (ملك) صقلية، إنه: صاحب صقلية.. وهكذا. ولم تكن أشقوه بلدة صغيرة، وإنما تشبه ما نسميه اليوم (مديرية) أو (قطاع)، وهو ما كان يسمى فى المصطلح العربى المبكر (كورة).. وهذا ما تؤكِّده البرديات (الرسائل) التالية، التى بعث بها ابن شريك ليطالب بالمتأخر من الجزية المقررة على القرى، بعد ثلاث سنوات من موعد استحقاقها.. ولنقرأ: «بسم الله .. هذا كتاب من قرة بن شريك، لأهل (بلدة) هروس من كورة أشقوه: إنه أصابكم من جزية سنة 88 (هجرية) ثمانية وعشرون ديناراً، وسدس دينار. كتبه راشد، فى صفر سنة 91 هجرية». «بسم الله.. هذا كتاب من قرة بن شريك، لأهل شبرا بقونس، من كورة أشقوه، إنه أصابكم من جزية سنة 88 أربعمائة دينار وثمانية وتسعون ديناراً. ومن ضريبة الطعام (القمح) مائة وثمانية وعشرون إردب قمح ونصف أردب. وكتب راشد، فى صفر سنة 91 هجرية». «هذا كتاب من قرة بن شريك، لأهل شبرا بقونس، من كورة أشقوه. إنه أصابكم من جزية سنة 88 مائة دينار وأحد وثلاثون ديناراً، وثلث دينار..». «من قرة بن شريك، لأهل شبرا بنان، من كورة أشقوه .. سبعة وأربعون ديناراً، وسُدس دينار، ومن ضريبة الطعام خمسة أرادب قمح.» «لأهل منية طورين من كورة أشقوه.. خمسة دنانير». «لأهل مُنية كنيسة مارية من كورة أشقوه.. ثمانية وتسعون ديناراً». «لأهل مُنية فردة من كورة أشقوه .. خمسة دنانير..». .. وهناك كثيرٌ من البرديات، على ذلك المنوال الدال على أن «أشقوه» كانت منطقة واسعة جداً، تضم بلاداً عديدة.. وأن الجزية لم تكن (مهولة) على النحو الذى يصوِّره اليوم المهوِّلون، إذ إن قيمة الدينار آنذاك، هى ما يساوى اليوم أربعة جرامات ونصف جرام من الذهب! وإذا حسبنا ما يعادل ذلك، من عملتنا اليوم، لعرفنا أن الحكومة المصرية الحالية تجبى من الناس، مسلمين ومسيحيين، أضعاف ما كان يدفعه الناس فى ذاك الزمان من جزيةٍ وخراج ومكوس. حسبما أشرنا إلى ذلك فى مقالة سابقة نُشرت هنا تحت عنوان: تحصيل الفلوس بالجزية أو بالمكوس (الضرائب على السلع). ■ ■ ■ وفى رسائل ابن شريك (الأخرى) يظهر لنا أن «باسيل» لم يكن وحده المسؤول الكبير بالبلاد، من غير المسلمين، فهناك أيضاً: مينا (صاحب أهناس) وبطرس (قبَّال الذهب بمدينة أهناس).. وغيرهما كثير. وكان كتاب الديوان الأميرى، بحسب ما يظهر من أسمائهم الواردة فى نهايات الرسائل، هم من المسلمين والمسيحيين، ومن العرب والمصريين: راشد، عيسى، الصلت بن مسعود، جرير، وادع، عبد الله بن نعمان، بسيل، مرثد، مسلم بن لبنان.. وغيرهم، علماً بأن رسائل ابن شريك كانت تُكتب أحياناً بالعربية واليونانية والمصرية (القبطية) ويبدو أن هذه اللغات جميعاً كانت سواسية عند أهل هذا الزمان، وهو ما يدل بطريقة غير مباشرة على أن الصورة لم تكن قاتمة على النحو الذى يروِّج له اليوم بعض المروِّجين المتلاعبين بعقول المعاصرين، بهدف إذكاء الكراهية بدلاً من المحبة.. المحبة! كيف ضاعت معانى هذه الكلمة ، وسقطت من بين أصابعنا؟ وفى رسائل ابن شريك (الأخرى) ترد إشارة إلى أمر مهم، طالما كان يحيرنى وهو: كيف استطاع المسلمون بعد سنوات قليلة من فتح مصر، بناء أسطول بحرى استطاع عبور المتوسط والالتحام بالأسطول البيزنطى، وهزيمته فى معركة (ذات الصوارى) التى سميت بذلك من كثرة «صوارى» السفن، التى التحمت هناك.. والمعروف أن العرب، سكان الجزيرة، لا خبرة لهم فى ركوب البحر. وكان بعض المؤرخين الكبار (فى السنِّ) يؤكدون أن اليعاقبة فى مصر، هم الذين ساعدوا المسلمين فى بناء هذا الأسطول، أو هم الذين بنوه لهم! هذا قولهم الذى ظل دوماً يفتقر عندى إلى الدليل.. لأن الحكام المسيحيين (الملكانيين) الذين حكموا مصر قبل مجىء العرب المسلمين، لم يكونوا يسمحون للمسيحيين (اليعاقبة) بالاشتراك فى الصناعات العسكرية وأمور القتال، لأنهم يرونهم خونة للبلاد ومخالفين للعقيدة القديمة التى يؤمن بها الروم الأرثوذكس.. بعبارة أخرى: كان الحكام يرون الأقباط كفرة!! فكيف استطاع الأسطول المصرى، بقيادة عبد الله بن أبى سرح، هزيمة الأسطول البيزنطى بعد حوالى عشر سنوات من فتح مصر. وأعتقد، وقد أكون مخطئاً، أن (العرب) هم الذين صنعوا هذا الأسطول. أعنى العرب الذين صاروا من بعد ذلك مسلمين، لكنهم كانوا قبل ذلك يعيشون بمصر والشام فى جماعات تصل أعدادها إلى مئات الآلاف. فهؤلاء هم الذين صنعوا بالشام السفن التى جاء بها جناح الأسطول الذى قاده معاوية بن أبى سفيان.. وهم الذين صنعوا بمصر، الأسطول الذى حارب به، وانتصر، عبد الله بن سعد بن أبى سرح. وكان البحارة يُعرفون فى ذلك الزمان، باسم (النواتية) والمفرد نوتى (وهى كلمة يونانية الأصل تعنى البحار).. ولنقرأ هذه الرسائل، مع مراعاة أن (الأنباط) هم جماعة كبيرة من العرب، سكنت مصر قبل مجىء الإسلام بقرون: «أما بعد، فإنى قد أمرت بقسمة نواتية سفن مصر وسفن أهل الشام وبأرزاق من يركب فيها من المقاتلة». «من قرة بن شريك إلى أهل مدينة أشقوه، فأعطوا لصنعة العين والقوادس والسفن فى جزيرة باب إليون قِبَل عبد الأعلى بن أبى حكيم سنة تسعين لجيش سنة إحدى وتسعين نبطياً نوبجين ونجاراً وجلفاطاً ومعيشتهم لثلاثة أشهر، فإن أعطيتم الأجر فأعطوا فى أجر كل نوبج دينارين، وفى أجر كل رجل جلفاط ديناراً ونصفاً، وفى أجر نبطى نجار ديناراً وثلثاً فى كل شهر». من قرة بن شريك إلى أهل بندة من مدينة أنصنى، فأعطوا لبعث نواتية سفن أمير المؤمنين إلى إفريقية قِبَل عبد الله بن موسى بن نصير سنة أربع وتسعين لجيش سنة خمس وتسعين نوتيين ونصف نوتى. فإن أعطيتم الأجر فأعطوا فى أجر كل نوتى ديناراً وسدس دينار تدفع لهم من بيت المال، وكتب الأثير عن عمبس بن كومناس من سنة أربع وتسعين. ■ ■ ■ وفى رسائل ابن شريك (الأخرى) مسألة مهمة ومنسية فى الآن ذاته، تتعلق بالجوالى (جمع: جالية) وهم جماعات كبيرة من اليهود والمسيحيين الشوام كان العرب قد دفعوا بهم إلى مصر قبيل الفتح، وبعده تنفيذاً للقاعدة التى استند فيها الفِكر السياسى الإسلامى المبكر إلى حديث نبوى يقول: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب! .. وهو ما تعرضت له فى روايتى الأخيرة (النبطي) بحسب ما يسمح به السياق الروائى وتصاعد الأحداث، والمسألة التى تظهر فى البرديات تتعلق بمراوغة هذه الجاليات (الجوالي) وتهربهم من دفع الضرائب العامة، أو الجزية المفروض عليهم دفعها بدلاً من اشتراكهم فى الأعمال العسكرية.. يقول ابن شريك لواحد من حكام الكور (بداية سنة 90 هجرية): «فإذا جاءك كتابى هذا.. ويعامل الذين جلوا من الكور بمقتضى الأوامر المدرجة فى حاشية الكتاب. ويُرسل لهم رجال ذوو كفاية وأمانة، ممن يحسنون الكتابة، ومعهم أوامر لرسل بمتابعة الجوالي. وعليهم أن يكتبوا بحضورهم كتاباً فيه اسم كل جالٍ ونسبه، وعن أى القرى جلا، وإلى أى القرى لجأ.. ومُرهم أن يباشروا عملهم بهمة ونشاط، وألا يأخذوا من أحد رِشوة. وإذا علمت أن أحد الرجال الذين ترسلهم قد ارتشى، فسيصيبك منى ما تكره وتُعاقب أنت والمذنب سواء. وعجل بإرسال الرجال إلى أصحاب الكور لأجل الجوالي، ولا أعرفنّ أنك قصرت أو أخرت إرسال الرجال الذين كتبت إليك فيهم، لئلا يحيق بك خطر». وهناك رسائل أخرى تتعلق بهذه (الجاليات) لكن المجال لا يسمح بإيرادها كاملةً.. مع أنها رسائل بديعة، تدعو إلى العجب من الانضباط الإدارى فى مصر آنذاك.