أفرح كل مرة حين أجد القدير الرائع سلامة أحمد سلامة يعتلى منصات التكريم والاحتفاء، فى كل مرة أقرأ فيها اسمه مكرماً فى احتفال، أو فائزاً بجائزة، أو مُرحباً به فى فعالية، يترسخ لدى يقين أن الرهان على القارئ أبقى وأنفع من الرهان على السلطة، وتتأكد عندى قناعة أن الكاتب الذى يحترم قارئه ومهنته، أكبر بكثير من كل المناصب والمقاعد، سواء فى منظومة الصحافة أو خارجها، حيث يتواجد بعض الصحفيين فى مواقع سياسية. والحقيقة أن هذا الكاتب الذى يقدم الأستاذ سلامة نموذجاً مبهراً له، لا يزيد احتياجك له، إلا فى أوقات المحنة، حين يتصدر المشهد نوعان من الصحفيين، أحدهما فارغ المضمون.. والثانى يبدل القناعات كما تبدل المرأة جواربها، يضبط بوصلة مواقفه على المصالح ويوجهها إليها، دون اكتراث بذكاء من يستهلك كلماته، لأنه فى تلك الحالة يركز على مستهلك واحد هو «الزبون» المراد بالبضاعة، وهذا النوع قد يبقى طويلاً على مقعده، لكنه لا يبقى فى الذاكرة ساعة واحدة بعد تقاعده. وعندما تسيطر «المحنة» على كل شىء، وليس الصحافة فحسب، وتجدها ظاهرة فيما تقرأ، فتجرح عينيك ألفاظ غير لائقة، لكن القانون لا يعاقب عليها، ويجرح عقلك سذاجة فى محاولات خداعك بتلبيس الأباطيل ثياب الحق، ويجرح ضميرك التفاف حول ما هو واجب، وتغييب لما هو ضرورى، وتزييف لما هو واضح، وتلويث لما هو نظيف، وإنكار لما هو معلوم، وتسفيه لما هو مأمول،وإحباط لما هو ممكن، وصد لما هو مقبل، وتجميد لكل فعل، وتمجيد ل«اللا فعل» وإصرار على تجميل القبح، وتقبيح الجمال، وتلوين رداءة الحاضر، وخيانة آمال مستقبل واعد. فى هذه «المحنة» تحديداً تعرف قيمة سلامة أحمد سلامة، وتتأكد من قدره ومنزلته، وتعترف بحقه المطلق فى مكانة متفردة بين أجيال سقط أغلبها فى غواية السلطة، فاستسلم لسطوتها وقسوتها، وتحصن بقربها، واستقوى ببطشها، وتنعم بذهبها، لكنه فى النهاية حين يوضع فى كفة ميزان أمام كلمة بقلم سلامة لا يهبط ولا يبدى مقاومة حين تسقطه الكلمة بثقلها المستمد من صدقها واستقلالها وموضوعيتها وتجردها من القوى والمصلحة. اختار بعضهم الكراسى وكانت إليه أقرب، وطريقه إليها أسهل، وجلوسه عليها أحق، لكنه استبدل كل ذلك بمقعد لا يفنى ولا يعرف فى قاموسه معنى التقاعد أو العزل، بينما كان آخرون يدفعون ثمن صعودهم بتنازل قاس وغير مشرف، كان هو يدفع ثمن مواقفه راضياً بضريبة استقلال تمنحه احترام رجل يجلس فى محطة قطار ويقلب صفحات الجريدة بعدم اكتراث، ثم يتوقف أمام عموده فيقرأ ويتأمل باهتمام بالغ، واحترام لا تخفيه ملامح تستحسن القول واللفظ والفكرة والعقل والصدق، هذا الاحترام أهم من رضا السلطة أو غضبها، وأهم من إغواء المناصب وبريقها، لأنه هو الذى يبقى ويستمر، ويخلد فى ذاكرة لا يهزمها النسيان بعد «عمر طويل». عندما وصفت مؤسسة الفكر العربى الأستاذ سلامة فى شرحها لحيثيات تكريمه ومنحه جائزتها الرفيعة، وقالت إنه «من الرواد الإعلاميين العرب المعاصرين الذين أسسوا لمدرسة تلتزم ميثاق الشرف الإعلامى، فتطرح ما تعتقده الحقيقة المؤكدة بالبحث والدليل، نزيهة من كل هوى، وتسهم بالوعى والفاعلية فى حركة تنوير الساحة العربية، بالتحليل المحكم والحرفية المهنية المشهودة والحوار الموضوعى الراقى».. كان ذلك أكبر دليل على صحة رهان سلامة، وأكبر تأكيد لمن يسيرون على دربه حتى تطمئن قلوبهم. [email protected]