«الرِّدَّة» لغويا هى الرجوع والتحول، يُقال ارتد عن سفره، أى رجع عنه. ومن معانيها أيضا، الرفض والامتناع والانتقال. وبعيد عن المعنى الدينى، الذى يشير إلى الخروج من الإسلام، فإن تاريخ مصر الحديث عبارة عن محاولات للنهوض السياسى والاقتصادى والاجتماعى والتعليمى، ثم نكوص أو تراجع أو رِدَّة عن هذه المحاولات. عندما تولى محمد على حكم مصر 1805 واستتب الأمر له، بدأ بناء نهضة عسكرية واقتصادية وتعليمية وزراعية. أسس جيشاً مصريًا قوياً وأقام قاعدة صناعية لكى توفر الأسلحة وبقية مستلزمات الجيش. إلا أن محمد على أدرك أن النهضة لن تترسخ وتزدهر إلا بإقامة منظومة تعليمية مختلفة تماما عما كان سائدا فى الماضى، فأرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا، خاصة فرنسا، ليعود المبتعثون ويشاركون بقوة فى النهضة المصرية. بعد تخليه عن العرش، ثم وفاة ابنه إبراهيم باشا الذى خلفه. حدثت رِدَّة كبيرة عن الطريق الذى سارت فيه مصر، حتى كادت تعود إلى زمن المماليك. ولولا الخديو إسماعيل الذى تولى الحكم من 1863 حتى إزاحته 1879، لكانت نهضة محمد على أثراً بعد عين. فى فترة حكمه عادت الإصلاحات وتطورت مصر عُمرانيا وإداريا واقتصاديا، بحيث أطلق عليه مؤرخون لقب المؤسس الثانى لمصر الحديثة بعد جَده. عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952، تخلى الضباط عن النظام الليبرالى فى السياسة والاقتصاد ليتوقف التراكم الذى حدث منذ 1923، والذى شهد تقدم المصريين لأخذ زمام الأمور وبناء مصر الحديثة فى شتى المجالات. وكان النموذج الأوضح هو الاقتصادى الكبير طلعت حرب (1867- 1941) الذى أنشأ بنك مصر وأقام المصانع وشركات الغزل والنسيج ومصر للطيران ومصر للتأمين ومصر للمناجم وتكرير البترول ومصر للسياحة واستديو مصر للسينما وغيرها. لنتصور لو واصلت مصر بعد 52 هذا الطريق وصوبته ولم توقفه وتبدأ طريقاً آخر؟. كانت الاستمرارية كفيلة بنقلنا إلى مصاف الدول المتقدمة والراقية. لكن الرِّدَّة أحيانا تكون للأفضل. ففى الصين مثلا، ارتد دينج شياو بينج عن طريق ماو تسى تونج، وعمل على أن تصبح بلاده جزاء من العالم. فتح بينج المجال أمام الاستثمارات الأجنبية وغير اللوائح والقوانين التى تعوق الاستثمار، وأرسل البعثات التعليمية إلى الغرب للاطلاع على أحدث ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا. قرر بينج أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون. وظلت التجربة الصينية تتعمق وتتواصل دون انقطاع حتى أصبحت الصين قوة عظمى اقتصاديا وتكنولوجيا. حدث ذلك أيضا فى دول مثل فيتنام وكمبوديا وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها. تخلت هذه الدول عن الطريق الشيوعى والاقتصاد المركزى واندمجت فى اقتصاد السوق العالمى وأرسلت البعثات التعليمية للخارج، مما جعلها تحتل المراكز الأولى فى الصادرات والدخل القومى والقدرة على انتشال مئات الملايين من الفقر والجهل والمرض. الرِّدَّة طريقان أحدهما يؤدى إلى التخلف والتراجع، والآخر يقود إلى النهضة والتقدم، وعلينا أن نختار. أى رِدَّة نريد.