تتعالى أصوات التلبية وتتسارع خطى الحجاج، في قلب الحرم المكي، لتتجلى واحدة من أعظم التقاليد الإسلامية التي تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا وفنًّا بديعًا وهو تغيير كسوة الكعبة المشرفة. كسوة الكعبة المشرفة، تلك التحفة الفنية التي تُزيّن بيت الله الحرام، ليست مجرد غطاء من قماش، بل رمزٌ للعناية الإلهية والإتقان البشري، مع انطلاق موسم الحج، تتجدد هذه التحفة سنويًا في طقس مهيب يجمع بين الروحانية والتراث، وتُستبدل بالكامل يوم عرفة. بدء موسم الحج في العصور القديمة كان «رفع الكسوة» يعد بمثابة وسيلة للإعلان عن اقتراب موسم الحج، ودلالة على دخول وقت الشعيرة، واستقبال ضيوف الرحمن، حيث تُرفع الكسوة ثلاثة أمتار، والتي عادة ما تتم في منتصف شهر ذي القعدة بإشراف من الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي. ويهدف هذا الإجراء إلى حماية كسوة الكعبة من التلف أو التمزق بسبب الزحام الشديد، كما يمنع محاولات بعض الحجاج أخذ قطع منها كتذكار أو طلبًا للبركة. من اليمن إلى مصر.. بدايات رحلة الكسوة تاريخ كسوة الكعبة يمتد عبر قرون، حيث كان الملك اليمني «تبع أسعد الكامل» أول من ألبس الكعبة ثوبًا في الفترة من 387 إلى 430م، لكن مصر هى التي احتكرت هذا الشرف لأكثر من سبعة قرون، منذ عهد السلطان عز الدين أيبك، كانت قرى تنيس وتونة وشطا مراكز نسيج الكسوة، كما هو مدون في مكتبة الإسكندرية والمتحف القومي للحضارة المصرية، حيث كان الحرفيون المصريون ينسجون هذا القماش المقدس بمهارة فائقة، ليصبح رمزًا للإبداع والتفاني. تحفة من حرير وذهب كسوة الكعبة ليست مجرد قماش، بل عمل فني يجمع بين الحرير الطبيعي وخيوط الذهب والفضة، تزن الكسوة حوالي 850 كيلو جرامًا، وتتكون من 670 كيلو جرامًا من الحرير الخالص، مزينة ب120 كيلو جرامًا من الذهب عيار 24 و100 كيلو جرام من الفضة. تُزيّن الكسوة بآيات قرآنية وعبارات توحيدية تُنسخ بعناية فائقة، مما يجعلها واحدة من أغلى الأثواب في العالم، بتكلفة تتجاوز 25 مليون ريال سعودي. ويستغرق تصنيع الكسوة عشرة أشهر، بأيدٍ سعودية متخصصة تضم أكثر من 150 خياطًا وطرازًا يعملون بتفانٍ لإتمام هذا العمل الجليل. مفتاح الكعبة في يد كبير السدنة في يوم عرفة، يتسارع العاملون في الحرم المكي لإتمام مراسم استبدال الكسوة، في حدث يشرف عليه الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وتُسلم الكسوة الجديدة إلى أحفاد الصحابي شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، تنفيذًا لوصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ويبقى مفتاح باب الكعبة، المصنوع من النيكل المطلي بالذهب، في يد كبير السدنة، الدكتور صالح بن زين العابدين الشيبي، رمزًا للأمانة التي تحملها هذه العائلة عبر الأجيال. حماية الكسوة.. تقليدٌ يحفظ التراث لحماية الكسوة من التلف أو محاولات الحجاج أخذ قطع منها كتذكار، يتم رفعها ثلاثة أمتار عن الأرض في منتصف ذي القعدة وهذا الإجراء ليس فقط لحفظ القماش المقدس، بل هو جزء من الطقوس التي تعكس العناية الفائقة بالكعبة المشرفة. وهكذا، تبقى كسوة الكعبة المشرفة رمزًا للجمال والروحانية، لكل الحجاج والمعتمرين الوافدين من كل فج عميق، تُنسج من خيوط التاريخ والفن والإيمان، لتحكي قصة بيت الله الحرام عبر العصور. حولها، يتردد صدى تلبية ضيوف الرحمن، معلنين بقلوب خاشعة: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك».