قال ممثل النيابة العامة، في مستهل مرافعته أمام محكمة جنح أول وثالث أكتوبر، في قضية انفجار خط الغاز بطريق الواحات، والتي أسفرت عن مصرع 8 أشخاص، وإصابة 17 آخرين، واحتراق 8 سيارات وموتوسكيل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، فإتقان العمل واجب شرعي قبل أن يكون واجبًا أخلاقيًا، وذلك على كل موظف وعامل ومسؤول، صغيرًا كان أو كبيرًا. النص الكامل لمرافعة النيابة العامة في قضية انفجار خط غاز الواحات وأضاف ممثل النيابة: «سيادة الرئيس، وأنا أنظر في واقعات هذه الدعوى بعين المحقق، رأيت أمامي آلام الأهل الذين فقدوا ذويهم، كنت أستشعر حزنًا عميقًا، وأنا أرى في أعين الشهود تساؤلات عديدة: ماذا حدث؟ من المخطئ؟ من المتسبب في هذه الفاجعة الكبرى؟ فكارثة إنسانية كهذه لا تحدث من مجرد خطأ فردي، وإنما تشير بإصبع الاتهام إلى إهمال مستشرٍ في جسد بعض العاملين بشركات الهندسة والمقاولات». ثم تابع قائلًا: «تبدأ واقعات دعوانا من وقوف جهاز مدينة السادس من أكتوبر على وجود تشققات وشروخ بطبقة الأسفلت بمدخل المدينة بطريق الواحات. فكلف الجهاز شركة خاصة تُدعى شركة «الميليجي» لتنفيذ تلك الأعمال، وذلك لوجود تعاقد سابق بينهما، ولكن هذا التعاقد لا يُغفل الدور الرقابي الواقع على عاتق جهاز المدينة». وأشار إلى أن «الشركة المنفذة، ونظرًا لأهمية هذا الدور، عهد الجهاز إلى شركة هندسية خاصة تُدعى «السهل الصاوي» بممارسة أعمال الرقابة». «يضرب الأرض باللودر.. فيصيب ماسورة الغاز» وتطرق وكيل النيابة إلى دور عامل اللودر، قائلًا: «يضرب الأرض بتلك الآلة، يحفر بعمق أكثر من المقرر له، فيصيب برعونة ماسورة غاز طبيعي، محدثًا بها شرخًا يبلغ طوله ثلاثة أمتار تقريبًا. وهنا تبدأ الطامة الكبرى. يظن أنه اصطدم بماسورة مياه، فيهرول وآخرون معه لإيقاف السيارات التي تسير بالطريق، محاولين إرجاعها لتسير من طريق آخر، ظنًا منهم أن المنطقة ستغمر بالمياه. ويا ليتها كانت». وأضاف: «تبدأ رائحة الغاز الطبيعي في التصاعد والانتشار. يدرك العاملون فورًا أن ما أُتلف هو ماسورة غاز طبيعي. يتحول الهواء إلى غاز قابل للاشتعال في أي لحظة». «ألسنة لهب وسيارات تشتعل وأرواح تحترق» وقال: «تعلو أصوات محركات السيارات بفعل كثافة الغاز المحيط، فتتوقف السيارات عن العمل فجأة. لم يفهم قائدو السيارات سبب توقف سياراتهم، فحاولوا بحسن نية إعادة تشغيلها، فيحدث شرز كهربائي يمتزج بالغاز المحيط، فيتحول إلى ألسنة حارقة من اللهب. وتشتعل النيران في سيارة تلو الأخرى». وأضاف: «تشتعل النيران، وداخل السيارات أرواح بريئة لا ذنب لها. هذا التراقص الصارخ، وهذا الاستهتار القاتل، تسبب في احتراق طفل رضيع وأمه داخل السيارة، لم يتمكنا من المغادرة من هول المشهد. احترق جسدهما وتفحما». واستطرد: «وهذان آخران ركضا مسرعين والنيران تأكل جسدهما، يطلبان المساعدة من المارة، حتى أذابت الحرارة جلودهما. وهذه طبيبة المستقبل، طالت النيران جسدها الطاهر، فخرجت مسرعة من السيارة تطلب العون فلم تجد من يعينها، فقامت بإطفاء جسدها المشتعل برمال الأرض». «إهمال متسلسل وتراخٍ ممنهج» وواصل ممثل النيابة مرافعته قائلًا: «هذا المشهد الحزين كان ضحاياه فئة من أنبغ فئات المجتمع، نتيجة إهمال جسيم. استشرى في نفوس المتهمين، فصوّر لدينا مأساة أنشأتها سلسلة من الرعونة والاستهتار بالقوانين والأعراف الهندسية. سلسلة مهينة، تشارك فيها المتهمون جميعًا، لنجد أنفسنا أمام هذه الكارثة الإنسانية». وتابع: «ولكن ما يجب حقًا أن نعرضه على سيادتكم، هو: كيف لأمر كهذا أن يحدث بتلك البساطة؟ كيف لهذا الدمار أن يحدث مع وجود أربعة مهندسي طرق مسؤولين عن ذلك العمل، يشرف كل منهم على الآخر؟ وللرد على تلك التساؤلات، ينبغي أن نعود بالزمن قليلاً». «خرق للعقود وتجاهل للتنسيق» وأوضح ممثل النيابة أن «لحظة تسلُّم مهندسي الشركة المنفذة لموقع العمل، تُلزمهم بنود التعاقد، قبل بدء إزالة أي طبقة من طبقات الطريق، بالتنسيق مع جهات البنية التحتية المختلفة. وإلا يُحظر استخدام الآلات الثقيلة، وتتغير آلية العمل بالكامل. وهو التزام في صميم التعاقد». وأشار إلى أن «الأعراف الهندسية المعتمدة تُلزمهم بعمل جسات استكشافية. وهنا انفرط عقد الحرص والمسؤولية عن المتهمين جميعاً. فالمهندس المسؤول استهان بأعراف مهنته، وبدأ أعمال إزالة طبقات الطريق دون تنسيق مع المرافق، ودون جسات استكشافية. وزاد الطين بلة بتركه للموقع، تاركًا عمالًا يحفرون بغير إشراف هندسي». وأضاف: «وهذا مدير مشروعات بالشركة المنفذة، سلّم معدات ثقيلة لسابقه، رغم علمه بعدم إتمام التنسيقات وعدم جاهزية الموقع للعمل. وذاك مهندس رقابي وإشرافي بالموقع، شاركهم الجريمة، فبدأت الأعمال بموافقته، في وقت كان عليه بصفته الإشرافية أن يمنعهم ويوقفهم». وتابع: «أما هذا، فهو كبير الخبراء بالشركة الهندسية الرقابية، يدير مشروعًا لا يعلم عنه شيئًا. لا يعلم متى بدأت الأعمال، ولا متى تنتهي. كل شيء حبر على ورق. فضح هذه السلسلة المترابطة من الإهمالات، عامل لودر أرعن، متعجل لإنهاء عمله. وآخر تركه يعمل دون استخدام الأجهزة والقياسات المساحية». «النيابة تقدم أدلتها» وأكد ممثل النيابة أن «هذه كارثة إنسانية خطيرة، سببها فساد إداري ومهني، أودى بحياة أبرياء راحوا ضحية إهمال جسيم يستوجب علينا ردعه». ثم قال: «أما بشأن إقامة الدليل على المتهمين، فأترك استعراضه للسيد الزميل. ولما كانت النيابة العامة لا تُلقي اتهامًا جزافًا، وما كان لها أن تتكلم إلا بالحق مؤيدًا بالدليل والبرهان، فإنها بذلت أيامًا وليالي لجمع الأدلة، توصلًا إلى كافة المسؤولين عن وقوع ذلك الجُرم». وأضاف: «جمعنا أدلة جاءت جميعها متسقة ومترابطة في إثبات الجريمة وتحديد الجُناة. وفي سبيل إيضاح الأدلة، سوف نقسم الأمر إلى جانبين: الأول، التدليل على أن وفاة الضحايا وإصابة المصابين كان بسبب انفجار واندلاع حريق. والثاني، إقامة الدليل على أن المتهمين هم المتسببون». «الشهادات تحدد المسؤولين» وقال: «بالنسبة إلى المتهم الأول، شهدوا بقيامه بكسر ماسورة الغاز أثناء الحفر، والمتهم الثاني، شهدوا أنه لم يوقف السائق عن الاستمرار حتى وصل لخط الغاز وأتلفه، أما الثالث، فأمر بإجراء الحفر بمعدات ثقيلة دون تحصله على التصاريح اللازمة». وأضاف: «المتهم الرابع أرسل معدات الحفر الثقيلة إلى موقع العمل، قبل أن يتأكد من استيفاء مهندس التنفيذ للتنسيقات. وأوضح أعضاء اللجنة مسؤولية المتهمين الخامس والسادس بأنهما وافقا على بدء التنفيذ والحفر قبل استخراج التصاريح». وأكد أن «المتهمين من الثالث وحتى السادس خالفوا بنود العقود المبرمة بين هيئة المجتمعات العمرانية والشركتين، وقد حُددت البنود المخالفة في كل عقد على حدة». «المجتمع ينتظر العدالة» واختتم ممثل النيابة مرافعته قائلاً: «لجريمة اليوم آثار نفسية ومجتمعية تظل عالقة بذهن المدني عليهم وذويهم وجميع من شاهدها. فليكن حكمكم يا سيادة القاضي مخففًا لحزن ذوي المتوفين، مكفكفًا لدموعهم، شافيًا لصدورهم، أمانًا لكل من فزع، وطمأنينة لكل من خاف». وقال بصوت حاسم: «سيد الرئيس، هؤلاء المتهمون لم يرعوا حكم دين، ولا قاعدة قانون، ولا عرف مهنة، ولا فطرة نفس، لذا نطالبكم بإنزال أشد ما رتّبه القانون على فعل أمثالهم. نطالبكم بتوقيع أقصى عقوبة، وهي الحبس عشر سنين، ليكن عقابكم عبرة زاجرة لكل من يفكر أن يهمل عمله أو يقصّر في أداء واجبه، وليعلم أن من ورائه قضاءً يضرب على يدي كل مقصّر، حتى إذا عمل أحدهم عملًا أتقنه».