الدستور قضية الساعة، تجاهلها أو تأجيلها تقصير فادح لا يمكن السكوت عنه، والقضايا التى تثيرها مسألة الدستور ثلاث: متى يصدر؟ من يضعه؟ وماذا يتضمن؟ ينشغل المجتمع اليوم بمسألة من يضعه أى مصدره. نبدأ بالإشارة إلى أن مصادر الدستور تعددت عبر السنوات إلى أن وصلت إلى الصيغة المفضلة حالياً. صدر الدستور منحة من الحاكم (المثل الكلاسيكى دستور فرنسا 1814 الذى أصدره لويس ال18 وأعطى الشعب جزءاً من السيادة). وصدر فى صورة تعاقد بين الشعب والحاكم، عادة ملك، وهو أكثر ديمقراطية من المنحة، إذ لا يمكن إلغاؤه إلا باتفاق الطرفين. كما صدرت دساتير فى معاهدات دولية مثل دستور بولندا سنة 1815، وألمانيا سنة 1871. أما الصورة الأكثر تمشياً مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التى وصلنا إليها فهى صدوره من جمعية تأسيسية منتخبة أو مختارة تمثل جميع فئات المجتمع، ثم طرح ذلك الدستور للاستفتاء. لم يستقر العمل بهذه الصيغة مصادفة أو اعتباطاً، إنما بعد خبرات وتجارب أكدت حقائق واستقرت بها مبادئ من بينها: ■ أن البرلمان لا يمكن أن يتحمل وحده مسؤولية وضع الدستور، فهو يقوم بإعلان الدستور، لكن لا ينفرد بوضع نصوصه وأحكامه، ذلك أن التقاليد الدستورية وأصول التقنين تقتضى أن الذين يقومون بتنظيم أمر أو إنشاء منظمة لا يجوز أن يكونوا ممن سوف يشملهم ذلك التنظيم تماماً، كما أن أطراف القضية لا يجوز أن يشاركوا فى إصدار الأحكام. قاعدة أخذت بها المحكمة الدستورية العليا فى مصر، وإن كانت فى سياق مختلف، والدستور ينظم اختصاصات مجلس الشعب وشؤونه فلا يضعه المجلس. ■ البرلمان مسؤول عن وضع القوانين، والدستور «أبو القوانين» الذى يجب أن يقوم على توافق جميع القوى الوطنية. البرلمان يشرع ويراقب لفترة معينة هى مدة دورته وقد يتغير التشكيل وتختلف الأغلبية وتتغير الاتجاهات، لكن الدستور يضع المبادئ الأساسية الصامدة، التى لا تتأثر بالاعتبارات السياسية والحزبية. ■ الدستور - فى أى نظام ديمقراطى صحيح - أحد المصادر الأساسية للتشريع، أى لابد من ترجمة نصوصه إلى قوانين وتشريعات تتفق مع نصوصه، وإلا كان الحكم بعدم دستورية التشريع وإلغائه، مما يؤدى إلى التناقض أو التضارب وما يطلق عليه «فوضى التشريع»، وهو بذلك وثيقة طويلة الأمد ممتدة المفعول لا ترتبط بفترة معينة. ■ وسواء قام رئيس الدولة أو البرلمان بتشكيل اللجنة أو الجمعية التأسيسية أو جاءت بالانتخاب، فالمهم أن يأتى تشكيلها معبراً عن حقيقة المجتمع وما يزخر به من تعددية تزيد المجتمع ثراءً وتنوعاً. إن مشاركة المواطنين فى وضع هذه الوثيقة المهمة والأساسية أحد دوافع احترام الدستور والقانون، فالإنسان أكثر ميلاً للالتزام بما يشارك فى وضعه. ■ الدستور وثيقة اجتماعية سياسية اقتصادية ليست قانونية فحسب، فلا يجوز أن يقتصر وضعه على القانونيين، بل يشارك فى وضعه سائر فئات الشعب وطوائفه واتجاهاته، حتى يكون البنيان راسخاً ديمقراطياً وطنياً. القانونيون والخبراء الدستوريون لهم مهمة المشاركة فى التأكد من اتفاق الدستور مع المبادئ الأساسية لبناء الدولة، وما يبديه الشعب من مطالب، ومع الاتفاقيات الدولية التى تم التصديق عليها. ونحن فى مصر لنا فى ذلك خبرة وتجارب، فمنذ ثورة عرابى وصدور أول دستور سنة 1882 صدر عدد كبير من الوثائق الدستورية تفاوتت أشكال وضعها، ومدى تعبيرها عن ضمير الوطن، لم ينفرد البرلمان بوضعها. الملك عندما شكل لجنة لوضع الدستور لم يختر أعضاءها من بطانته، بل كانوا يمثلون الخبرات والكفاءات المطلوبة لهذه المهمة، وعبدالناصر لم يقصر لجنة الدستور على العسكريين، بل شكلها من الأساتذة والعلماء والمفكرين، ودستور 1971 مهدت له سلسلة من جلسات الاستماع التى شملت جميع طوائف الشعب. واليوم تمر مصر بمرحلة مصيرية يسودها كثير من المناقشات والحوارات والاعتراضات والمقاطعات حول معايير اختيار اللجنة التأسيسية. هذه المعايير ليست مشكلة مستعصية. ويمكن القول بصفة عامة إنه لابد أن تشارك فى الجمعية التأسيسية نسبة معينة من أعضاء البرلمان، ولتكن 25 عضواً يمثلون الاتجاهات المختلفة بالمجلس التشريعى وفقاً لوزن القوى، أى الأحزاب، فى البرلمان وذلك بحد أدنى عضوان وحد أقصى 5 أعضاء. كما يشارك فيها جميع فئات مصر وطوائفها، على اختلاف انتمائهم السياسى، والحزبى، والدينى، عسكريين ومدنيين، أقباطاً ومسلمين، رجالاً ونساءً، يمثلون المناطق الجغرافية المختلفة الدلتا والصعيد والنوبة وسيناء والواحات وحلايب وشلاتين، منهم العمال والفلاحون، والرأسمالية الوطنية، والمهنيون من أساتذة القانون والإدارة وغيرها، يمثلون المؤسسات الرسمية والأهلية والدينية، ويطرح للاستفتاء والمطلوب هنا أغلبية 50% وليس الثلثين. لقد تأخرنا كثيراً فى إصدار الدستور، فكان يجب أن يصدر قبل الانتخابات البرلمانية، ليضع الحياة السياسية على الطريق الصحيح ويقوم بنيان الدولة على أساس واضح راسخ متين، أما وقد تقرر عكس ذلك وجاءت الانتخابات التى لم تكن اختياراً بين برامج أحزاب سياسية، إنما مفاضلة وخياراً بين الجنة والنار فلا يجوز أن تستمر حياتنا السياسية بلا دستور، ولا يجوز اتخاذ أى قرارات تتعلق بشكل الدولة أو اختصاصات الوزارة أو انتخاب الرئيس وسط فراغ دستورى وحزبى. إن وضع دستور أمر فى غاية الأهمية والخطورة، لكنه ليس مهمة مستحيلة متى وضحت الأهداف وخلصت النوايا. ومصر لديها عشرات من أساتذة الدستور والقانون والمفكرين وعلماء الاجتماع والاقتصاد والناشطين، الذين وضعوا دساتير عربية وأفريقية وساهموا فى وضع وثائق دولية.. أصبح عليهم اليوم وضع دستور متزن ومتوازن لوطنهم، الذى يحتاج لكل عقل متزن وكل فكر متوازن وكل ضمير وطنى. المهم أن نبدأ المسيرة فى الطريق السليم ومن أوله.. والبداية هى الدستور.. إن مجتمعاً بلا دستور.. طائرة بلا رادار.