التسجيل المُسرّب بين عبدالناصر والقذافى أثار الصخب ولايزال، والسبب أن عبدالناصر يقول فيه إنه أصبح يؤمن بالحل السياسى لاسترداد الأرض المحتلة، وإن قوما إذا أرادوا مواصلة طريق القتال فليتفضلوا. التسجيل كان قبل وفاته بقليل فى 28 سبتمبر 1970، وكانت المسافة الزمنية بينه فى ذلك العام، وبين هزيمة 5 يونيو 1967، هى التى أثمرت محتوى ما قال. ولا معنى لما ورد فى التسجيل سوى أن الرجل تغيرت قناعاته وأفكاره فى مرحلة ما بعد الهزيمة، وأنه استشرف بالتجربة العملية صحة المبدأ الذى يقول إنك لا يمكن أن تعيد فعل الشىء نفسه ثم تنتظر نتيجة مختلفة عما كانت النتيجة عليه فى المرة الأولى. هناك الكثير الذى يشير إلى أن عبدالناصر تغير بعد 1967، ولكن ذلك كان فيما يخص السياسات الداخلية، أو قضية الديمقراطية بالذات.. فلقد صار يؤمن بأن فكرة التنظيم السياسى الواحد، من أول هيئة التحرير، إلى الاتحاد القومى، إلى الاتحاد الاشتراكى، انقضى زمانها ولم تعد صالحة بحكم ما أدت إليه من عواقب وخيمة. ولو عاش، لكان قد ذهب إلى تجربة المناير ومن بعدها الأحزاب كما فعل السادات، ولكان ذلك هو التطور الطبيعى لأفكاره بتأثير ما أصابنا من خيبة ثقيلة فى يونيو 67. الجديد فى التسجيل المذاع على مواقع التواصل أنه يرصد التطور لديه فى قضية أخرى هى العلاقة مع اسرائيل، وفى الطريقة التى يمكن بها استعادة ما جرى احتلاله، وقد كان قبوله قبلها بمبادرة وليام روجرز، وزير الخارجية الأمريكى، وقرار مجلس الأمن 242، من نوع المقدمة التى تقود إلى نتيجتها.. كانت النتيجة تقول إننا إذا كنا قد جربنا طريق الحرب فلنجرب الطريق الآخر، وكانت تقول أيضاً إن الإيمان بطريق السلام ليس ضعفاً ولا تسليماً، وإنما هو تغيير فى الوسيلة لا فى الهدف. الناصريون منزعجون من التسجيل، وما قرأته لكثيرين منهم يقول إنهم يودون لو يحرقون التسجيل إياه، وهذا موقف غريب وعجيب، لأنى كنت أتوقع أن يواجهوا الأمر بشجاعة أكثر، وأن يقولوا إن ما فى التسجيل لا يعيب عبدالناصر، بل بالعكس يقف فى صفه، لأن المعنى أن الفترة من 67 إلى 70 لم تكن هباءً فى تفكيره، وأنه استوعب ما جرى فى مأساة 5 يونيو وتعامل معها بواقعية سياسية لا بديل عنها. المعنى فى محتوى التسجيل أن الرجل مات فى 1970 لا فى 1967، أى أن عبد الناصر 70 ليس عبد الناصر 67، وأن ما بين السنتين لم يكن يصب خارج الكأس فى عقله وأفكاره. أما إذا شاء أنصاره ألا يتغير فيه شىء تحت وطأة ما جرى، فهذا سيكون معناه أنه مات فى 67، وأن ما بعد 67 إلى وفاته كان بلا أى أثر فى وجدانه وعقله على السواء.