في زمن يزاحم فيه الخطاب الشعبوي الحقائق، وبينما زادت الحقبة الترامبية طين السياسات الأمريكية بلّة، لا يبدو غريبًا أن يخرج الرئيس الأمريكي المثير للجدل، دونالد ترامب، بادعاءاتٍ تُنسب لبلاده إنجازاتٍ لم تصنعها، ومساعيَ لم تبذلها. تصريحات ترامب الأخيرة بشأن طلب إعفاء السفن الأمريكية من رسوم عبور قناة السويس، بدعوى أن الولاياتالمتحدة صاحبة فضلٍ على إنشاء القناة، ليست سوى نموذج إضافي من ركائز خطابه الشعبوي، الذي يحترف الهزل وأكل الحقوق، ماديها ومعنويها. إن القناة، فكرةً وتنفيذًا، لم تُشق بقرارات، ولا بأموال، ولا بإسهامٍ تقني أو لوجستي أمريكي؛ بل قامت بفضل عزيمة المصريين، وتضحياتهم، بل ودمائهم، في مشروع وصفه المؤرخون بأنه «ملحمة في الإصرار والإرادة الوطنية». وبالبحث قي عدة مصادر تاريخية، بما في ذلك أرشيف صحف مثل نيويورك تريبيون ونيويورك هيرالد الصادرتين في 17 نوفمبر 1869، ولم يُسجل أي أحداث بارزة في الولاياتالمتحدة. يبدو أن ذلك اليوم خلا محليًا من تطورات كبيرة، بينما ركزت التغطيات على افتتاح قناة السويس، كحدث عالمي. وافتتحت القناة المصرية، التي ربطت البحرين الأبيض المتوسط بالأحمر، رسميًا في احتفالات كبرى بين 17 و19 نوفمبر 1869. احتفى بها العالم، بينما كانت الولاياتالمتحدة حينها غارقة في شؤونها الداخلية، ولم يكن لها أي دور يُذكر في هذا الحدث العالمي؛ إذ كانت منغمسة في تصحيح مساراتها عقب الحرب الأهلية الأمريكية (1861–1865)، فيما عرف ب«فترة إعادة الإعمار» (Reconstruction Era). ولم تكن أمريكا بعدُ قوةً عظمى؛ فقد كان اهتمامها منصبًا أكثر على شؤونها الداخلية، بعيدًا عن مشاريع الملاحة الدولية أو النفوذ البحري العالمي. وبنظرة عابرة إلى أرشيف نيويورك تريبيون ونيويورك هيرالد ليوم 17 نوفمبر 1869، تؤكد أن تغطية الحدث اقتصرت على وصف الاحتفالات العالمية، دون أي إشارة إلى دور أمريكي فعلي. وبينما شهد حفل افتتاح القناة حضور شخصيات أوروبية بارزة، مثل الإمبراطور النمساوي فرانسيس جوزيف، والملكة أوجيني دي مونتيجو، غاب أي تمثيل رسمي أمريكي عن هذا الحدث الدولي، ووثقت صحيفة ذا تايمز البريطانية (18 نوفمبر 1869) وقائع الحفل، مؤكدةً أنه اقتصر على قوى أوروبية وسلطات مصرية فقط. أضف إلى ذلك، غياب الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي بمصر، وقناة السويس خلال القرن التاسع عشر، إذ تؤكد موسوعة أكسفورد للعلاقات الأمريكية-المصرية أن الولاياتالمتحدة لم تُبدِ اهتمامًا سياسيًا أو استراتيجيًا بمصر حتى الحرب العالمية الأولى. كان تركيزها منصبًا على التجارة وحماية المبشرين البروتستانت، ولم تكن قناة السويس ضمن أولويات سياستها الخارجية. أما على الصعيد العسكري، فكانت البحرية الأمريكية متخلفة تقنيًا عن نظيراتها الأوروبية، مع استمرارها في الاعتماد على السفن الخشبية، مقابل الأساطيل الأوروبية التي كانت تطور سفنها البخارية والهياكل الفولاذية. الاهتمام الأمريكي الحقيقي بقناة السويس بدأ فقط بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما خلال أزمة السويس عام 1956، حين مارست واشنطن ضغوطًا دبلوماسية على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل للانسحاب من مصر، خشية تصعيد التوتر مع الاتحاد السوفيتي. وحين سألنا منصات الذكاء الاصطناعي الأمريكية، عن أبرز ما جرى في أمريكا سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، ورياضيًا، وفنيًا، وحتى من جهة الحوادث يوم افتتاح قناة السويس، جاءت الإجابات كلها بأن الصحف الأمريكية الكبرى لم تسجل شيئًا يستحق الذكر سوى خبر افتتاح القناة. وكمثال على ذلك، قال موقع «جروك»، لصاحبه إيلون ماسك، حليف ترامب الأول، أجاب نصًا: «لا يبدو أن هناك أحداثًا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فنية أو رياضية أو حوادث مهمة حدثت في الولاياتالمتحدة في 17 نوفمبر 1869، بناءً على السجلات التاريخية المتاحة. الحدث البارز الذي تم تغطيته في الصحف الأمريكية في ذلك اليوم كان افتتاح قناة السويس في مصر، وهو حدث عالمي وليس أمريكيًا». فقناة السويس، إذًا، تمثل إنجازًا حضاريًا مصريًا خالصًا، وشاهدًا على قدرة الأمم على تحقيق المشاريع الكبرى رغم التحديات إن تحريف التاريخ لأغراض سياسية آنية، كما ظهر في خطاب دونالد ترامب، لا يغير من الحقيقة الراسخة بأن مشروع القناة كان مصريًا-فرنسيًا في التخطيط والتنفيذ والتمويل، تحت اسم شركة قناة السويس، وهي شركة مساهمة مصرية. وسيظل هذا المشروع مصريًا خالصًا، وخادمًا للتجارة الدولية بشكل نزيه وعادل... «من غير خيار وفاقوس»، كما وستبقى الوثائق والشهادات التاريخية، المرجع الأساس لتأريخ الأحداث الكبرى بعيدا عن الادعاءات الشعبوية الترامبية؛ ف«العظمة» التي يروج لها ترامب تُبنى بالدماء والكفاح، لا بالتغريدات، ولا بالتسلق على إنجازات الآخرين. وأثارت هذه التصريحات الصادمة — وإن لم تكن مفاجئة — حالة من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي، وفجرت موجة غضب واسعة في الشارع المصري، الذي اعتبرها محاولة ابتزاز رخيصة ومكشوفة من ترامب للضغط على القاهرة لتحقيق أهداف أخرى، معلنًا رفضه لها شكلًا ومضمونًا. و طالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمرور السفن العسكرية والتجارية التابعة للولايات المتحدة عبر قناتي السويس وبنما مجانًا، دون دفع أي رسوم، معلنًا في منشور على منصة «تروث سوشال»: «طلبت من وزير الخارجية ماركو روبيو أن يتولى هذا الأمر على الفور» بينما قال مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز، إن بلاده «ليست مضطرة لدفع رسوم مقابل مرور سفنها في قناة تدافع عنها».