فى مواجهة الضغوط المتزايدة لتحقيق شحن بحرى صديق للبيئة وخالٍ من الانبعاثات، يتخذ قادة صناعة النقل البحرى إجراءات للانتقال من السفن المُلوِّثة للبيئة إلى السفن الذكية والخضراء؛ فمع نقل نحو 90٪ من التجارة العالمية عن طريق البحر، يُنتِج الشحن البحرى ما يقرب من 3٪ من الانبعاثات العالمية، ولذلك وضعت «المنظمة البحرية الدولية» استراتيجية جديدة للغازات الدفيئة للوصول إلى انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، وهو ما يتضمن هدف استخدام الوقود المستدام بحيث يمثل 10٪ من استخدامات الطاقة فى مجال النقل البحرى بحلول عام 2030. وقد حفز ذلك كلًا من الدول والشركات الكبرى على حد سواء لتطوير سفن تؤدى إلى خفض انبعاثات الكربون؛ فعلى سبيل المثال، تخطط شركات البيع بالتجزئة الضخمة مثل أمازون وإيكيا وليفر للتنقل فقط على السفن التى تستخدم وقودًا خاليًا من الكربون بحلول عام 2040. هذا التحول يفتح آفاقًا جديدة للابتكار فى مجال صناعة السفن، ويتطلب تعاونًا وثيقًا بين مختلف الأطراف المعنية، من الشركات المصنعة إلى الشركات المشغلة والمؤسسات التنظيمية، لكى تصبح إمكانية الوصول إلى سفن خالية من الانبعاثات حقيقة واقعية. نحو سفن تجارية تعمل بالطاقة النووية بناءً على الأهداف السابقة، وفى إطار السعى لتقليل البصمة الكربونية لصناعة الملاحة، تبرز الطاقة النووية كحل واعد ومصدر موثوق لتقليل الانبعاثات الناتجة عن الشحن البحرى بشكل كبير؛ نظرًا لقدرتها على تمكين السفن من القيام برحلات طويلة دون الحاجة إلى التزود بالوقود بشكل متكرر، وذلك وفق مسار ينقل العالم إلى الشحن النظيف باستخدام مواد أكثر استدامة، ووقود بديل، وحلول دفع خضراء، وأتمتة أكبر، إضافة إلى استخدام السفن المستقلة والتحكم عن بُعد.. وكلها أمور تعيد التفكير فى الطريقة التى تُصمَّم بها السفن التجارية وتُبنَى وتُشغَّل وتُصان؛ بما يعنيه ذلك من بناء وتطوير مجموعة واسعة من التقنيات المعقدة وتكاملها بنجاح. وعلى عكس السفن التى تعمل بالوقود الأحفورى، فإن السفن العاملة بالطاقة النووية تُطلِق كميات أقل بكثير من الغازات الدفيئة والملوثات الهوائية؛ مما يجعلها خيارًا أكثر استدامة. كما يمكن لاستخدام الدفع النووى أيضًا تجنب وقوع حوادث تسرب النفط البحرى، التى تحدث بشكل متكرر. ومع وجود عقبات تقنية فى زيادة إنتاج الأمونيا الخضراء والميثانول والهيدروجين، أصبح قطاع الشحن مهتمًا بشكل متزايد بالطاقة النووية، خاصة وأن الوقود النووى يُعد مناسبًا لتشغيل السفن التى تمكث فى البحر لفترات طويلة؛ لأنه يقلل من الحاجة للتزود بالوقود من جانب، ويُنتِج انبعاثات كربونية صفرية من جانب آخر. وتقوم آلية عمل السفينة العاملة بالدفع النووى على احتوائها على محطة نووية على متنها بحيث تُسخِّن الماء لتوليد الكهرباء؛ ومن ثم تشغيل المولدات والتوربينات التى تدفع السفينة. وكانت أول سفينة تعمل بالطاقة النووية على الإطلاق هى الغواصة الهجومية USS Nautilus، وذلك فى عام 1954، ثم حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس إنتربرايز USS Enterprise»، التى تم تشغيلها فى عام 1961. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الطاقة النووية تُستخدَم تقليديًا فى السفن الحربية مثل الغواصات الحربية وحاملات الطائرات بشكل رئيسى. ورغم ذلك، وفى إطار برنامج «الذرة من أجل السلام»، تم إنشاء أول سفينة تجارية تعمل بالطاقة النووية فى بداية الخمسينيات من القرن الماضى، وهى السفينة N.S. Savannah، ولكن لم يتم تطويرها لمهام الشحن لمسافات طويلة. كما لم يستخدم سوى عدد قليل من الدول الطاقة النووية فى السفن التجارية، وبشكل محدود للغاية منذ ذلك الوقت، من أبرزها الولاياتالمتحدة وروسيا وألمانيا واليابان. ومع مساعى الانتقال إلى تأسيس سفن تجارية خضراء وفق رؤية المنظمة البحرية الدولية، تتركز جهود بعض الدول والشركات العامة والخاصة على دعم التقنيات الحديثة مثل النمذجة عالية الدقة وتقنيات البناء المتقدمة لتحسين تصميمات المفاعلات الصغيرة لتشغيل سفن الشحن. على سبيل المثال، تخطط شركة Core Power البريطانية بجهد ذاتى لتطوير مفاعل نووى متقدم مبرد بالملح المنصهر، ويَستخدِم الوقود السائل بدلًا من الوقود الصلب، بحيث تتم معالجة أوجه القصور الشائعة فى هذه العملية فى المفاعلات النووية التقليدية. وفى إيطاليا تدرس شركة رينا Rina، وهى واحدة من الشركات الرائدة فى اعتماد السفن عالميًا، سُبُل استخدام الوقود النووى فى تشغيل السفن التجارية، وتقول إن هذا الأمر سوف يستغرق ما بين سبع إلى عشر سنوات حتى يكون قابلًا للإنتاج والتطبيق. الجهود الكورية الجنوبية والصينية ضمن هذه المساعى العالمية لتجربة وتطوير سفن الحاويات العاملة بالطاقة النووية؛ لتصميم مستقبل أكثر استدامة لقطاع للصناعات البحرية، تبرز فى آسيا كلٌ من كوريا الجنوبيةوالصين، على وجه خاص، كدولتين تحاولان المساهمة فى هذه الجهود التى لا تخلو من تحديات علمية وهندسية وتقنية، حيث: 1 – كوريا الجنوبية: تُعتبر من الدول الرائدة فى صناعة السفن، وتمتلك خبرات واسعة فى مجال الهندسة البحرية والتكنولوجيا النووية، وتسعى إلى الاستفادة من هذه الخبرات لتطوير سفن حاويات تعمل بالطاقة النووية كجزء أساسى من استراتيجيتها لتحقيق الحياد الكربونى فى قطاع الشحن البحرى. ففى يناير 2023، أعلنت شركة «سامسونج للصناعات الثقيلة» أنها أكملت التصميم المفاهيمى للسفينة CMSR للطاقة، والتى تعمل من خلال محطة طاقة نووية عائمة تعتمد على المفاعلات الملحية المنصهرة. وفى فبراير 2023، وقع «معهد كوريا لأبحاث السفن والمنشآت البحرية» وثمانى منظمات كورية جنوبية أخرى مذكرة تفاهم للتعاون فى تطوير مفاعل ملحى مناسب للاستخدام فى السفن البحرية، وتم الاتفاق أيضًا على التعاون فى تطوير واختبار المفاعلات النووية الصغيرة التى تُستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية لاستخدامها فى المجال البحرى، وتدريب الخبراء فى تشغيل السفن التى تعمل بالطاقة النووية وإنشاء البنية التحتية الصناعية. وفى فبراير 2024، وقعت شركة «بناء السفن الكورية الجنوبية» الكبرى، اتفاقية تعاون مع شركتى الطاقة النووية البارزتين Core Power وTerraPower، لمشروع إنشاء أول مفاعل ملحى سريع باستخدام الكلوريد، والهدف هو تسويق التكنولوجيا النووية واستخدامها فى السفن التجارية بحلول عام 2035. كما بادر اتحاد آخر من المنظمات بتوقيع مذكرة تفاهم فى مطلع عام 2024 لتطوير سفن حاويات تعمل بالطاقة النووية باستخدام المفاعلات النووية الصغيرة المعيارية. وعلى الرغم من عدم الكشف عن تفاصيل محددة لهذا المشروع الأخير؛ فإن هذه الاتحادات تهدف إلى جعل الطاقة النووية قابلة للتطبيق تجاريًا، حيث تهدف إلى استخدام المفاعلات المبردة بالملح المنصهر، والتى تتضمن إذابة الوقود النووى فى أملاح فلوريد منصهرة، علمًا بأن فكرة هذه المفاعلات ليست جديدة، فقد كانت مفاعلات شبيهة محدودة عملت لوقت قصير فى عقد الستينيات، ولكن حالت كثرة المشكلات الفنية والتكلفة المالية دون انتشارها على نطاق واسع. ومع هذه المساعى المتعددة، فقد تعاون «مكتب التصنيف الأمريكى» مع «معهد كوريا الجنوبية لأبحاث السفن والمنشآت البحرية» لتطوير سفن تجارية تعمل بالطاقة النووية الصغيرة ومنصات توليد الطاقة النووية العائمة؛ حيث سيقوم المعهد بالتطويرات التقنية الأساسية، بما فى ذلك التصاميم المفاهيمية وأنظمة الدفع النووى وأطر تحليل السلامة المتكاملة للسفن النووية وتصميم منصة عائمة لتوليد الطاقة النووية الصغيرة، جنبًا إلى جنب مع نموذج تجارى يمكنه توفير الطاقة المستقرة للمناطق الجزرية. 2 – الصين: تُعد الصين من أبرز دول العالم فى صناعة السفن، وتبذل جهودًا كبيرة فى تطوير سفن الحاويات النووية، حيث تسعى إلى تطوير مفاعلات نووية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية لتشغيل السفن التجارية؛ فقد كشفت الصين، فى 7 ديسمبر 2023، عن تصميم أكبر سفينة حاويات فى العالم تعمل بالدفع النووى، وأشارت إلى أن هذه الخطوة تمثل مساهمة كبيرة فى تقليل التكاليف وتحقيق الاستدامة باستخدام الوقود النووى مع الحفاظ على الأثر البيئى المنخفض. جاء ذلك فى إطار فعاليات معرض «الصين للتكنولوجيا وتقنيات صناعة النقل البحرى»، الذى أقيم لأول مرة فى شنغهاى، حينما أعلن «حوض جيانغنان لبناء السفن» التابع للشركة الصينية الحكومية عن تصميم هذه السفينة التى سوف تستوعب 34 ألف وحدة حاوية مكافئة. وتشير التقارير الصينية إلى أن هذه السفينة سوف تتمتع بمجموعة من المزايا التى تجعلها خيارًا مبتكرًا ومستدامًا فى مجال الشحن البحرى الأخضر، أبرزها نظام الطاقة الآمن والكفاءة العالية، حيث صُمم هذا النظام على أساس «مبدأ الاحتياط المزدوج» نظرًا لأن وحدة الطاقة النووية تقع فى قلب السفينة بما يضمن استمرارية إمداد الطاقة بشكل كامل، هذا إضافة إلى تجهيز السفينة بنظام دفع هجين ومتكامل يعتمد كليًا نظامًا كهربائيًا يعمل بمحركات مزدوجة ومراوح متعددة، ويقوم نظام توليد الطاقة على مولدات ثانى أكسيد الكربون فوق الحرجة، بالإضافة إلى تصميم نووى معيارى مضغوط. كما سوف تتميز هذه السفينة بالكفاءة الاقتصادية؛ إذ يكفى استبدال بطاريتها ما بين 15 إلى 20 عامًا؛ مما يقلل من تكاليف التشغيل على المدى الطويل. لقد حقق قطاع الشحن البحرى الصينى قفزة نوعية بتصميم سفينة جديدة تعمل بمفاعلات «الملح المنصهر»، والتى حصلت على الموافقة المبدئية من «جمعية التصنيف البحرى النرويجية»، وهو ما يُعد إنجازًا نحو تطوير سفن خالية من الانبعاثات الكربونية، ولاسيما مع تشغيل أول محطة نووية صينية من الجيل الرابع فى «شيدواوان»، والتى تعتمد على تقنية المفاعلات عالية الحرارة المبردة بالغاز؛ مما يفتح آفاقًا جديدة لاستخدام الطاقة النووية فى توليد الكهرباء بشكل آمن وفعال. من جانب آخر، أعلنت الصين، فى شهر نوفمبر الماضى 2024، عن بناء نموذج أولى لمفاعل نووى أرضى لسفينة حربية كبيرة، فى علامة واضحة على أنها تتقدم نحو إنتاج أول حاملة طائرات نووية لها. ووفقًا لتحليل جديد للصور الفضائية ووثائق حكومية صينية نشرتها وكالة أسوشيتد برس؛ فإن البحرية الصينية تُعتبر حاليًا الأكبر من حيث العدد فى العالم، وسوف تعزز إضافة حاملات طائرات تعمل بالطاقة النووية إلى أسطولها طموحها فى أن تصبح قوة بحرية قادرة على العمل بكفاءة فى البحار البعيدة، فى ظل تنافسها مع الولاياتالمتحدة. أخيرًا، تشير محاولات وتجارب الصينوكوريا الجنوبية وغيرهما من الدول إلى أن الطاقة النووية يمكن أن تقوم بدور حاسم فى تشكيل مستقبل الشحن البحرى، فمع التقدم المستمر فى تكنولوجيا المفاعلات النووية الصغيرة، يمكن أن تصبح السفن النووية حقيقة فى المستقبل القريب. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الهدف يتطلب استثمارات كبيرة فى البحث والتطوير، وإيجاد حلول مبتكرة للتحديات التى تواجه هذه التكنولوجيا وتطبيقاتها فنيًا داخل السفن التجارية. كما أنه فى حالة التغلب على هذه التحديات وإنتاج هذه السفن بالفعل، فسوف تنشأ مجموعة جديدة من التحديات التنظيمية والقانونية لمرور مثل هذه السفن ورسوها فى موانئ الدول؛ وهو ما يتطلب التوصل إلى اتفاقية شاملة تضمن الحماية والتنظيم والتأمين التجارى للسفن النووية. * باحثة متخصصة فى الاقتصاد السياسى وشؤون الموانى واللوجستيات ينشر بالتعاون مع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة